نواف شاذل طاقة
في مقابلة نشرتها دورية السياسة الخارجية مع وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلنتون بتاريخ 22 آذار 2012، أكدت الوزيرة أن أحدا لم يتوقع حدوث الربيع العربي، ولكنها عادت لتستدرك بأن ذلك لم يمنع الولايات المتحدة من إعادة حساباتها ودراسة سبل بناء تحالفاتها الجديدة في منطقة تملأها الاشواك، على حد وصفها. وفي سياق حديثها عما جرى في مصر، رددت السيدة كلنتون مثلاً أمريكيا قديما، أثار الكثير من الجدل بين سياسيين يحظون بدعم الولايات المتحدة في العراق، قائلة إنك لن تجد على الاطلاق بديلا عن ذلك الجلد الجيد لحذائك القديم في إشارة إلى الخسارة التي منيت بها الولايات المتحدة بعزل الرئيس حسني مبارك.
إن القصد من هذه المقدمة هو التأكيد على أن الانتفاضات الشعبية التي أطلق عليها الغرب تسمية الربيع العربي لم تفاجئ العرب فحسب، بل فاجأت القوة الأعظم في العالم. لكن المفاجأة انتهت، ولم يعد هناك أي مبرر مقبول لارتكاب أخطاء وقعت فيها قوى وطنية حاولت التغيير نحو الأفضل. بل يفترض بالقوى الوطنية أن تستنبط الدروس مما حدث وأن تتدارك الأخطاء، وهو مدخلنا للحديث عن التطورات التي يشهدها العراق اليوم والتي باتت تعرف باسم الانتفاضة العراقية. للحديث عن الانتفاضة العراقية، لا بد من العودة قليلا إلى الوراء، واستذكار ما حدث في البلاد قبل عشر سنوات خلت، حين وقع العراق في نيسان من سنة 2003 تحت وطأة احتلال أجنبي، تم خلاله تدمير مرتكزات الحياة المدنية الأساسية وفي مقدمتها منظومة القيّم التي بناها العراقيون منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة سنة 1921 لغاية سقوطها سنة 2003. وعقب تدمير تلك البنى، اختلف المراقبون بشأن ما حدث، فهنالك من يقول أن دولة الاحتلال، الولايات المتحدة الأمريكية، حاولت إعادة بناء مرتكزات حياة مدنية جديدة فصّلتها على هواها إلا أنها فشلت في إرساء دعائمها بسبب الرفض الشامل الذي قوبلت به مشاريعها من جانب أطياف الشعب العراقي ومكوناته. غير أن رأياً آخر يرى بأن قوة الاحتلال تلك لم تحاول أساساً بناء أية أسس جديدة بل أن القصد كان تهديم ما كان قد بُني خلال مائة سنة وترك العراق عليلا مشلولا تتقاذفه الأمواج العاتية لعقود مقبلة. وقبل أن تترك الولايات المتحدة البلاد، صاغت دستورا هجيناً، تركت فيه فسحة صغيرة لبعض العراقيين الذين انتقتهم بنفسها، ومن بينهم رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي، لكي يضيفوا بعض المواد الثانوية هنا وهناك. وقد كرس هذا الدستور المعلول مفاهيم جديدة لاقت رفضا عارما من الشعب، أبرزها محاولته بناء عراق ضعيف مهلهل، جُرد من أهم عناصر قوته، وفي مقدمتها هويته العربية، وكرست فيه واقعا طائفيا يُمهد لتقسيم البلاد. ولغرض تثبيت هذا الواقع الجديد، جاءت قوات الاحتلال بأحزاب زُعم أنها إسلامية، شيعية وسنية، تمثل طبقة سياسية فاسدة ومتخلفة، في آن واحد، ضمنت فيها توفر مواصفات محددة تكفل لها الحفاظ على الحد الأدنى من الأسس التي بنتها، ونصبتها على رقاب الشعب، وما برحت تبطش بالعباد منذ ذلك الحين حتى هذا اليوم. بيد أن العراقيين رفضوا الاحتلال منذ يومه الأول، وعادت محافظات ومدن عراقية كانت قد ثارت على الاحتلال البريطاني سنة 1920 لتثور ثانية على الاحتلال الأمريكي، كما حدث في الفلوجة والنجف والموصل والكوت والبصرة ومدينة الصدر في بغداد، فقُمعت بشكل دموي. ولم تتوقف الاحتجاجات بعد انسحاب القوات الأمريكية من البلاد، فقد شهدت السنة الماضية احتجاجات في مدن عراقية امتدت من اقصى الجنوب في البصرة حتى السليمانية شمالا، مرورا بالديوانية والنجف والكوت والرمادي والموصل وكركوك وديالي، أعرب خلالها المتظاهرون عن غضبهم من الظلم والجوع والفساد. وقد قمعت جميع هذه الاحتجاجات بشكل وحشي حتى أن مظاهرة متواضعة خرجت في مدينة الكوت قبل نحو سنة تعرضت إلى إطلاق النار من قوات الأمن وتسببت في مقتل أكثر من تسعة مدنيين عزل. وكعادته، خرج رئيس الوزراء العراقي ليتهم الشعب بزعزعة النظام، وليكيل الشتائم بحق المواطنين، ويلصق بهم تهم الإرهاب.
على هذه الخلفية، جاءت الاحتجاجات السلمية التي تشهدها اليوم محافظات عراقية في كل من الرمادي ونينوى وصلاح الدين والتأميم وديالى، والتي دخلت شهرها الثالث بكل عنفوان، وهي تشهد اتساعاً اسبوعا بعد آخر حتى إن أحياءً في مدينة بغداد باتت تحذوا حذوها بعد أن كانت هادئة طيلة السنوات الخمس الماضية. وعلى الرغم من سلمية هذه الاحتجاجات فان القوات الامنية التابعة لحكومة نوري المالكي استخدمت معها أبشع اساليب القمع فقامت في الموصل، بدهس المتظاهرين بالعجلات العسكرية، وفي الرمادي، أطلقت النار على المتظاهرين فقتلت العديد منهم، وفي بغداد، شرعت بحملة مداهمات واعتقالات اعقبتها موجة اغتيالات بالكواتم لأبرز الوجوه التي ساهمت فيها.
إن أوجه القمع التي جوبهت بها الانتفاضة العراقية لم تختلف كثيرا عن تلك التي واجهها المنتفضون في عدد من العواصم العربية، فمشاهد دهس عجلات قوى الأمن المصري للمتظاهرين في شوارع القاهرة مشابهة تماما لما وقع في الموصل، وإطلاق الرصاص في الرمادي على المتظاهرين العزل كان شبيها بما حدث في تونس والقاهرة والعديد من المدن السورية، واخيرا، فان اعتقال المتظاهرين في بغداد والاغتيالات التي رافقت تلك الحملة لا تختلف كثيرا عما حدث ويحدث في سوريا. وبالاضافة إلى هذه السمات المشتركة لما وقع في العراق ومدن عربية ثائرة، فقد كانت هناك سمة مشتركة أخرى لا تقل خطورة عن سواها، وهي أن قوى بعيدة عن الثورة وعن روحها ركبت موجة الاحتجاجات، وتمكنت في العديد من الأقطار التي شهدت انتفاضات جماهيرية من اختطاف الانتفاضات فتصدرت الصفوف الأولى في الحكومات التي شكلت على انقاض الأنظمة الراحلة. وينطبق هذا الوصف اليوم، في بعض جوانبه، على ما يحدث في العراق، إذ سارعت شخصيات عرف عنها تحالفها السابق مع قوات الاحتلال الاجنبية وضلوعها في الفساد الذي تمارسه الحكومات العراقية المتلاحقة التي نصبها المحتل لتتصدر مرة أخرى الاحتجاجات في سعي منها لتأمين موطئ قدم لها عند تغير الظروف السياسية.
ولكن أخطر ما واجهته الانتفاضات العربية في العديد من الاقطار العربية هو مسعى عسكرتها، ودفعها لحمل السلاح ضد النظام، وهي القضية التي تكتسب اليوم أهمية كبرى في العراق. وإذا ما كان للمرء أن يستلهم الدروس والعبر من الأخطاء التي وقعت فيها الانتفاضات العربية، فقد تكون عسكرة الانتفاضة في سوريا أكثر الأخطاء فداحةً. لقد تواصلت الانتفاضة السورية لمدة ثمانية أشهر متتالية على نحو سلمي ولاقت ما لاقته من اعتقال وتعذيب وقتل واغتيال لدفعها إلى حمل السلاح ضد النظام الذي كان يبحث مستميتاً عن عذر لمواجهة المتظاهرين السلميين. وبالفعل، حصل النظام السوري على ما أراد، ففتحت له آفاقا رحبة لقمع شعبه بالمدفعية والدبابات والطائرات، وسمحت بتدويل الأزمة وتعقيدها، وبالتالي ساهمت في تأجيج صراع طائفي وعرقي يعتقد الكثير من المراقبين أن جروحه لن تندمل في الامد المنظور. وما ينطبق على سوريا في الأمس قد ينطبق على العراق غدا، في حالة تكرار الأخطاء السورية، على الرغم من أن القيادات السياسية والدينية العراقية الرئيسية ما برحت حتى اليوم متمسكة بالخيار السلمي وتحث عليه.
لقد فجر الظلم، والفساد، والجوع، والتمييز، والتهميش، والرشاوى، والسرقات، والاعتقالات العشوائية، واغتصاب الرجال والنساء في السجون، في العراقيين هذا الغضب الجامح مما يستبعد معه أن تهدأ حدة هذه الانتفاضة السلمية حتى تتحقق مطالبها. وعلى الرغم من ضعف الحكومة وفسادها وتخبطها إلا أنها ما مازالت تحظى بدعم اقليمي لا يستهان به، وهي لن تتخلى عن الحكم بسهولة، فالتجارب التي شهدتها انتفاضات سابقة أثبتت بأن مثل هكذا أنظمة قمعية تواصل دائما البحث عن مسوغات لاطالة عمرها. ولعل أفضل ما يمكن أن يتشبث به نظام نوري المالكي هو اللجوء إلى الاستقطاب الطائفي، بل حتى الحرب الطائفية، ولن يتورع النظام عن وضع البلاد على مذبح التقسيم إذا ما اقتضت تلك المصالح. إن كل ما تقدم يدعو إلى تجنب اعطاء هذا النظام الذخيرة اللازمة لاشعال نار الفتنة، مما يستدعي من القوى الوطنية الحفاظ على سلمية الانتفاضة. كما أن محاولة إلصاق تهمة الطائفية بالانتفاضة، واعطائها طابعا مناطقيا، ومن ثم تهميشها، لهو تحدِ كبير لا بد لقادة الانتفاضة من مواجهته بكل حكمة وترو وصبر عبر وسائل متعددة، وفي مقدمتها استقطاب أبناء بقية المحافظات العراقية، من دون أي استثناء، لتصبح انتفاضة عراقية سلمية شاملة تهز أوكار الظلم والفساد وتعيد للعراقيين عزتهم وكرامتهم
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.