عوني صادق
هل كان يجب أن يقع اغتيال المعارض التونسي، المنسق العام لحزب الوطنيين الديمقراطيين، شكري بلعيد، ليُقْدِم رئيس الوزراء حمادي الجبالي، دون تشاور، على ما كان يرفضه ويماطل فيه قبل الاغتيال؟ هل كان يجب أن توضع تونس، دولة وثورة، أمام الاحتمالات المرعبة حتى يصبح ممكناً تحقيق بعض مطالب المعارضة التونسية؟ والسؤال الأهم، في اللحظة الراهنة، هل يكون اغتيال بلعيد نهاية لمرحلة ساد فيها تعنت “الإخوان” وخطفهم الانتفاضة التونسية وانفلات “السلفيين”، وتعثر “المرحلة الانتقالية”، أم يكون بداية لمرحلة تصبح فيها الاغتيالات السياسية والتصفيات الجسدية للمعارضين هي الوسيلة التي تقرر المرحلة المقبلة من حياة التونسيين؟
في الذكرى الثانية لانتفاضتهم، استفاق التونسيون على خبر اغتيال أحد قادة المعارضة البارزين لحكم “الترويكا”، شكري بلعيد، فأسقط في أيديهم وغمرهم الخوف مما تحمله الأيام المقبلة . كان المناخ العام الذي سبق عملية الاغتيال، والذي أشاعه تحريض “الإسلاميين”، وخصوصاً “انفلات السلفيين” ضد المعارضة، ينذر بأن الأمور تسير إلى الأسوأ، في ظل تأخر صياغة الدستور، وتأجيل الانتخابات، وتمسكهم بكل مفاصل السلطة . ومنذ أشهر، ثبت فشل النهج السياسي للترويكا، وكذلك بدا واضحاً فشل سياسات الحكومة، فبدأت المطالبة باستقالتهما، بعد أن عمت المظاهرات أجزاء كبيرة من البلاد التونسية وتكررت المواجهات مع الشرطة والأجهزة الأمنية، حتى إن رئيس الجمهورية، المنصف المرزوقي، طالب في خطاب علني بتشكيل “حكومة كفاءات” مستقلة، ما جاء دليلاً على اعتراف رسمي بفشل الحكومة في الإيفاء بأي من وعودها للشعب الذي انتظر . لكن الجبالي، ومن ورائه حركة “النهضة” التي ينتمي إليها وحكومته، لم تفعلا غير التحايل على المطلب الشعبي، من دون أي تغيير كان يجب أن يصل إلى بعض الوزراء “السياديين” الذين شاعت فضائحهم الأخلاقية والمالية، ومن دون أي تغيير في سلوك الحكومة على أي مستوى، أو إحراز أي تقدم في أي من ملفاتها الكثيرة .
لقد كان بلعيد يبدو متأكداً من أن العنف السياسي المتزايد سينتهي إلى الاغتيالات السياسية، وما التهديدات التي كان يتلقاها يومياً إلا دليل واحد على ذلك . وفي آخر حديث له أجرته معه جريدة “الخليج”، كرر كلمة الاغتيال 16 مرة، وحذر من “المخططات الإرهابية التي تنوي حركة النهضة تنفيذها”، قائلاً: “إن الاغتيال السياسي سيكتب نهاية الثورة وبداية فترة مظلمة قد تجر البلاد إلى حرب أهلية في أحسن الحالات!”، ودعا الحكومة إلى الاستقالة فوراً، والتوقف عن المماطلة في “تحوير الحكومة”، حيث إن حيلها لم تعد تنطلي على المعارضة . وكان هذا الاتهام الموجه إلى الحكومة وحركة “النهضة”، نابعاً من رفض الحكومة حل ما يعرف باسم “روابط حماية الثورة” التي لم تكن سوى ميليشيات شكلتها ورعتها “النهضة”، واستعانت بها، كما قال بلعيد في حديثه ل”الخليج”، لتكريس العنف وتصعيده .
وبطبيعة الحال لم يكن منتظراً من حركة “النهضة”، أو من حكومة الجبالي، أن تعلنا تبنيهما لعملية الاغتيال، حتى لو كانتا وراءها، بل كان منتظراً منهما ومن “المرشد” راشد الغنوشي شخصياً، أن يقولا ما قالاه عن رفضهما ل”الجريمة النكراء”، وهو ما يقوله كل التونسيين، من أن الاغتيال السياسي غريب على الشعب التونسي، وأن حادثة اغتيال بلعيد تعد سابقة في تاريخ تونس . لكنه إذا كانت حادثة الاغتيال السياسي غريبة وسابقة على/ وفي تاريخ تونس، فإن الجميع يعلمون أنها ليست غريبة على/ أو في تاريخ “الإخوان المسلمين”! . . ويطالب الجميع الآن بتحقيق “شفاف” يجلب المجرم ومَنْ وراءَه إلى المحاكمة، ولكن هل تتوافر الثقة بأن تعمل وزارة الداخلية التونسية حقاً ذلك؟ الجميع يحذرون من أن المستهدف لم يكن بلعيد شخصياً، بل كانت “الثورة” هي المستهدفة، وأن أعداء “الثورة” يريدون جر البلاد إلى فتنة و”حمام دم”، قالها الغنوشي والجبالي والمرزوقي، وكل السياسيين التونسيين، وهو قول حق، ولكن السؤال من يريد به الحق، ومن يريد به الباطل؟!
وإذا كان كل التونسيين يعرفون المستهدف من عملية اغتيال بلعيد، فإن السلطة الحاكمة هي المطالبة بالرد على هذا الاستهداف بقرارات وإجراءات تفشل الأهداف التي أرادها الذين يقفون وراء عملية الاغتيال، قرارات تنفّس الاحتقان بالأفعال وليس بالأقوال، وتصحيح “مسار الثورة” الذي انحرف وتاه في معارج تتعارض مع الأهداف الحقيقية التي انتفض من أجلها الشعب التونسي على نظام ابن علي الاستبدادي . وإذا كان حمادي الجبالي قد أعلن، عملياً، حل الحكومة الحالية، وقرر، دون تشاور، تشكيل حكومة مصغرة من “الكفاءات الوطنية البارزة” لتدير شؤون البلاد حتى إجراء الانتخابات، وطالب مصطفى بن جعفر، رئيس المجلس التأسيسي، بتحديد موعد لإجرائها في أسرع وقت، فإن المشكلة لن تحل بهذا الإجراء وحده إذا ما تحول إلى “وعد” جديد، قد يتم التحايل عليه بالعقلية ذاتها التي تصرفت مع الوعود الكثيرة السابقة . وإذا كان هناك من مبرر ل”سوء الظن” هذا، فهو موجود في سجل الحكومة، وسجل حزبها الحاكم، منذ تسلّما السلطة في تونس .
إن اغتيال بلعيد يمكن أن يكون تضحية مقبولة إن نجحت في إنهاء مرحلة من التيه والتخبط والشهوة للسلطة والاستفراد بها، وكانت بداية لتصحيح المسار ووضع الشعب التونسي على الطريق الصحيح نحو الديمقراطية الحقيقية، وإلا فإنها ستكون بداية ل”فترة مظلمة” قد تجر البلاد إلى حرب أهلية، كما سبق وحذر بلعيد نفسه . . وأملنا بأن تكون نهاية للفترة المظلمة وبداية لمسار جديد صحيح . . .