علي محمد فخرو
دعنا نحاول طرح موضوع الدين والسياسة على النحو التالي… أولاً: عبر أكثر من قرن من الزمن طرح الموضوع، في غالب الأحوال، بشكل حاد واستقطابي مثير للعواطف المتشنجة وللجدل العقيم. فالعلمانيون أصروا على الفصل التام والقطيعة الجذرية بين حقلي الدين والسياسة. والكثير من القوى الإسلامية السياسية أصرت على الغمس الكامل للدين في السياسة واستحضرت شعار أن الإسلام هو دين ودولة.
ثانياً: كانت مرجعية العلمانيين الأساسية خارجية مسترجعة تاريخ الكنيسة الكاثوليكية الأسود الانتهازي في مجتمعات القرون الوسطى الأوروبية من جهة، وردود فعل مفكري الأنوار الأوروبيين تجاه ذلك التاريخ من جهة أخرى.
وكانت مرجعية القوى الإسلامية تراثية تراجعية في الزمن مستحضرة تاريخ ممارسات الحكم في المجتمعات الإسلامية والفكر الفقهي المساند لتلك الممارسات. والواقع أن كلتا المرجعيتين تقعان خارج الزمن والمكان، ولا دخل لهما بواقع المجتمعات العربية في العصر الذي نعيش.
ثالثاً: إن الإسلام كدين متجذر في وجدان وعقل العربي المسلم، والإسلام كثقافة مكون أساسي من مكونات ثقافة الإنسان العربي أياً كان الدين الذي ينتمي إليه. وبالتالي فإن أية محاولة للقفز على هاتين الحقيقتين عند التعامل مع موضوع السياسة في الحياة العربية ستواجه العقبات وتدخل في مماحكات لا نهاية لها، عدا عن رفض فطري عند غالبية المواطنين العرب في شتى أرجاء وطن العرب لمثل ذلك القفز. وفي الواقع فلم توجد قط سياسة لم تحكم مبادئها ومنهجيتها وسيرورة مسارها ثقافة المجتمع السائدة، والدين جزء منها.
رابعاً: وإذاً ما الحل لهذه المعضلة التي طال أمد اجترارها؟ أولاً لنتذكر أنها ليست قضية هامشية حتى نتجنبها، إذ هي في واقع الأمر أحد أهم مفاتيح دخول العرب في حداثتهم الذاتية المتواصلة مع العصر الذي يعيشون. وفي اعتقادي أن أحد الحلول يكمن في التوقف عن وضع الأمة أمام ضرورة الانحياز فقط لأحد الخيارين: إما الفصل التام الغريب على طبائع الأمور في حياتها أو الوصل العبثي الاندماجي الغامض المرشح ليكون مليئاً بالمشاكل والتفسيرات التي لا حصر لها ولا عد.
الحل في اعتقادي هو في الانتقال إلى تركيز الحديث والمناقشات على التفاصيل التي ستحكم العلاقة بين الدين والسياسة. ومع أن الشيطان يكمن في التفاصيل كما يقول المثل الشهير، إلا أنه بالنسبة لهذا الموضوع آن الأوان لكشف الشيطان وطرده من ساحة هذا الموضوع، فالتعايش مع الغموض والغمغمات اللفظية لم يعد في صالح مستقبل الحياة السياسية العربية.
لست بالمؤهل ولا القادر على تبيان ملامح العلاقة الصحية الواقعية التي ينبغي أن توجد بين الدين والسياسة، فلهذا الأمر الصعب المعقد، ولكن غير المستحيل، فرسانه ومريدوه. وبالطبع فإننا لا نتحدث هنا عن إيجاد علاقة صحية بين قوى الإسلام السياسي وغيرها من القوى السياسية الأخرى. إنما نحن هنا بصدد فكر ومنهاج سياسي عربي تفصيلي جاد يتوجه لحل تلك المعضلات التي جئنا على ذكر بعضها، ويتخطى استقطابات وتخندقات الفصل والوصل، ولا يكتفي بنقل وترشيح هذه التجربة أو تلك في هذه البلاد الإسلامية أو تلك. ذلك أن الواقع يدحض وجود تجربة ناجحة في أي بلد إسلامي والتي استطاعت إيجاد حل ناجح للمعضلة التي تواجهها مجتمعاتنا العربية والإسلامية.
ليس المطلوب حتماً إعادة محاولات الحلول التلفيقية السابقة التي حوت الكثير من التناقضات والتوترات بين حقلي الدين والسياسة. المطلوب هو طرح أسئلة محددة والإجابة عنها. مثلاً، هل أدوار مؤسسات المراجع الدينية، أياً تكن مسمياتها، أدوار استشارية بحتة، مثلها مثل المؤسسات الأخرى الاقتصادية والاجتماعية والعلمية وغيرها التي تستشار كمراكز اختصاصية من قبل البرلمانات والحكومات؟ هل الكلمة النهائية في هذه الحالة لممثلي الأمة المنتخبين والمعينين الذين لا يخضعون إلا لمحاسبة الشعوب التي انتخبتهم؟ هل تفسير الدساتير والقوانين تقوم بها فقط المحاكم الدستورية والتي بالطبع وحدها تقرر من تستشير قبل اتخاذ قراراتها؟ هل المشاورات المقدمة من قبل مؤسسات المرجعيات الدينية تعبر فقط عن اجتهاد وفهم أصحابها البشري للدين، وليس لها بالتالي قدسية لا تسمح لأحد أن يناقشها أو يرفض الأخذ بها؟ هناك عشرات الأسئلة الأخرى التي تحتاج أن تطرح وأن يجاب عليها. بهذه الطريقة تفكّك الأجزاء المتشابكة عن بعضها البعض ويصبح النقاش حول نقاط محددة وليس حول كلمات عامة تفهمها كل جهة معنية بطريقتها الخاصة وينقلب النقاش إلى جدل عبثي عقيم.
مرةً أخرى نذكر أن قضية العلاقة بين الدين والسياسة أصبحت كبرى القضايا وأولى الأولويات في الحياة السياسية العربية. وبالتالي فإن مواجهتها وإيجاد حلول معقولة لها سيفتح الباب على مصراعيه لحل مسألة الحداثة العربية، بل وكل مكونات مشروع النهضة العربية. مطلوب من المفكرين والفقهاء المستنيرين الموضوعيين المساهمة في ذلك.