أمجد عرار
حالة فوضى تجتاح تونس وتنذر بما هو أخطر بعد اغتيال المعارض اليساري شكري بلعيد أحد أشد منتقدي حكومة “النهضة” . حالة الفوضى هذه تجعل كل عربي مخلص يضع يده على قلبه خوفاً على بلد كان اسمه يبعث في الوجدان رائحة الياسمين، وأصبح مبعثاً لروائح الدم . ولأن الفوضى ككل الكائنات تبدأ صغيرة ثم تكبر، فإنه لا شيء في الأفق يوحي بنهاية هذه الفوضى التي تبدو في بدايتها . لم يكن القيادي بلعيد في جبهة قتال حين أصابته الرصاصات الغادرة بمقتل . لم يكن يحمل سلاحاً عندما هم بمغادرة منزله متوجّهاً إلى مكان عمله . لم يكن جالساً على محطة القطار السياسي ليتعلّق به لحظة وصوله، بل كان معارضاً جذرياً دفع ثمن صلابته المبدئية من زهرة شبابه حين دخل السجن في عهدي بورقيبة وابن علي، اللذين سجناه ولم يقتلاه . لم تكن يسارية بلعيد من قبيل الترف الثقافي ولم ينبت في الصالونات الثقافية وجدل أصحاب القبعات المائلة، بل نبت في تربة زراعية تنبت الكفوف المشقّقة والسواعد الخشنة .
لكن الغدر لا منطق له، والجبن شيء يشبه الكريات الحمراء والبيضاء والبلازما في الدم .
لم ترق لخفافيش الظلام رؤية قائد يجمع عشرة أحزاب يسارية تحت راية “الجبهة الشعبية” التونسية، من أجل خوض النضال الديمقراطي السلمي لحماية مستقبل تونس من الانتهازية بكل أنواعها . لم يرق للخفافيش أن تتصدّر المشهد السياسي في تونس قيادات مبدئية لا تلحس مواقفها عند أول دعوة لمؤتمرات “إيباك”، ولا تنفخ في قربة التطبيع مع “إسرائيل”، بل تقف في الصفوف الأولى لجبهة مقاومة التطبيع، ولا داعي للتذكير بأن الشهيد كان عضواً نشطاً في “لجنة مكافحة التطبيع” مع الكيان، وكان في مقدمة من رفعوا لواء القضية المركزية للأمة العربية والإنسانية، قضية فلسطين، وكان حازماً في نضاله ضد الاستبداد في الداخل والسياسات الإمبريالية والاستعمارية في الخارج .
ليست الكتابة والمنابر مكاناً ملائماً لتوجيه الاتهامات في أي اتجاه، ولا يجوز للغضب أن يتحوّل إلى فعل عشوائي يخدم نظرية مطلقي الرصاص الغادر . ليس من الحكمة اتهام أي حزب أو جماعة بعينها، بالمعنى الجنائي . لكن للاغتيالات السياسية بيئة حاضنة، ولها دائماً غطاء أخطر من مشط الرصاص . البيئة الحاضنة تتبلور يوماً بعد يوم منذ انتفاضة تونس ضد نظام ابن علي، حيث اتجّه المسار الثوري درامياً في ظل عدم جاهزية قوة قيادية من محرّكي الثورة ووقودها، لتوجيه الدفّة باتجاه أهداف الشعب .
وجاءت السياسات، البيئة الحاضنة، لتكون المتهم السياسي بدفع البلاد إلى الفوضى والتراجيديا السوداء التي تظللها بلا اكتراث ممن يدعون الحرص على المصلحة الوطنية . فلم تكد تجف دماء شكري بلعيد حتى صدرت “فتوى” فتنوية في مصر تدعو لقتل قادة المعارضة . وإذا لم تكن هذه الفتوى مؤشراً لما جرى في تونس، فإنها مؤشر لما سيجري في مصر في ضوء تنامي هذا النفس الإقصائي .
نحن أمام حالة تقوم على أقصى درجات البراغماتية والانتهازية، حالة تتكئ على حراك بلا قيادة، وعلى عملية قرصنة على التاريخ وهدم للجدران بين المتناقضات . من كان يحرّم السرقة والغناء ويكفّر جمال عبدالناصر، لا يتورّع الآن عن سرقة أغاني عبدالحليم حافظ التي كتبت ولحنت وغُنيت لجمال عبدالناصر وثورة 23 يوليو، ثم يعبث بها ويحرّفها ويعيد تدويرها على مقاسه . رغم كل ذلك نبقى نأمل ألا يتحوّل اغتيال قائد إلى اغتيال لوطن وانتحار ذاتي .