عبد العزيز المقالح
من الكلمات الجميلة التي أحببتها، بل عشقتها، وكنت وما زلت أحب أن أسمعها كلمة “الحوار” لما لها من دلالة على أهمية المشاركة في الرأي والدعوة إلى التفاهم وتصويب الأفكار أدبية كانت أو فكرية أو سياسية، ولما يترتب على الحوار عادة من الانتقال من موقف الخلاف أو الاختلاف إلى موقف الوفاق والاتفاق . وما أكثر الاختلافات التي تبدأ صغيرة ثم تكبر حتى لا تترك مناخاً مناسباً للحوار والاحتكام إلى ما يتوصل إليه المتحاورون . لكن ما يؤسف له حقاً أن هذه الكلمة الجميلة لم تسلم من التحريف ومن أن يعبث بها كثير من المفسدين في الأرض، ومنهم بعض الحكام والقادة والسياسيين الذين لا يجيدون شيئاً في الحياة كما يجيدون إفساد كل شيء بما في ذلك اللغة هذه الوسيلة المهمة للتواصل والتفاهم .
وفي العقود الأخيرة من حياتنا العربية كم شهدنا وقرأنا وشاهدنا من لقاءات ومؤتمرات تحت مسمى الحوار، ثم لم ينتج عنها سوى المزيد من الخلافات والصراعات على أمور هي في كثير منها أصغر من أن توصف بالصغيرة . وحتى الآن لاتزال هناك في كل بلد عربي أكثر من دعوة للحوار، وفي الصحف كما في غيرها من وسائل الإعلام التقليدية والحديثة أحاديث لا تنقطع عن أهمية الحوار وضرورته للتعايش بين أبناء الأرض الواحدة واللغة الواحدة، ولا ينفك الكتاب المعروفون والمجهولون، المكرّسون منهم والمبتدئون يمارسون الحديث عن الحوار، وبات الإنسان العربي ينام على صوت هذه الكلمة ويصحو على أصدائها، مما كان كفيلاً بأن يعطيها مكانة خاصة في الواقع ويجعل منها مفتاحاً أساسياً لحل القضايا المعلقة وما أكثرها في أقطارنا العربية التي عانت ولا يزال بعضها يعاني سطوة الصوت الواحد والرأي الذي لا يقبل النقاش . والسؤال الذي يطرحه الواقع الراهن هو: هل الإكثار في الحديث عن الحوار في مصلحة هذه الكلمة وفي التمكين لدلالتها من الانتقال من خانة الصوت إلى خانة الفعل أم أنه يظلمها ويمسخها ويفقدها ما كانت تتمتع به من حيوية وظلال تبعث على الأمل والارتياح؟ ومن وجهة نظري أن هذا الإكثار قد جنى على كلمة الحوار نفسها كما جنى من قبل على عدد من الكلمات المرتبطة بوجدان الإنسان وحياته مثل كلمة الحرية على سبيل المثال التي كان الطاغية والثائر يرددانها في وقت واحد ولدى كل واحد منهما مفهومه الخاص ووسيلته المختلفة في فهمها وطريقة التعامل مع معناها .
وإذا ما قلنا إن أوضاعنا العربية الراهنة بحاجة إلى حوار طويل يتناول جميع المشكلات التي نعاني منها جميعاً، وفيها ما هو سياسي وما هو اقتصادي واجتماعي وثقافي، فإن التجارب السابقة لا تعطي بارقة أمل واحدة، لسبب وحيد ربما، هو أننا لا نعرف شيئاً عن قواعد الحوار وما ينبغي أن يؤدي إليه، كل من يسعى إلى الحوار أو ينادي به إنما يخفي وراءه هدفاً ثابتاً في نفسه لا يتزحزح عنه قيد أنملة، ودعوته إلى الحوار لكي يقنع به الآخر أو بالأصح يلزمه به . ولهذا كان الفشل الذريع نصيب كل حوار حيث ينفض المتحاورون دائماً وقد صار كل طرف أكثر تمسكاً بموقفه وآرائه مما كان عليه قبل الحوار . وهذا ما جعل كثيراً من العقلاء في الوطن العربي يقفون في وجه هذا النوع من الحوارات المؤججة للخلافات والداعية إلى المزيد من الانقسامات والتشرذم، وتلك ظاهرة واحدة من ظواهر التخلف الضارب أطنابه في قلب الواقع .