عبدالله جناحي
من لا يعرف طيران الخليج؟ بل من لا يخفق قلبه أسًى بذكرها إن حظي يوماً بركوب إحدى طائراتها؟ أليست «أم أحمد» اسماً محلياً أطلق على إحدى طائراتها ذات المراوح تعبيراً عن مودة وامتنان أهل الخليج لهذه الناقلة التي خدمتهم، وللراحة وسرعة الوصول مقارنةً بالمراكب الشراعية البطيئة وهول البحر وتجديف ركابه في ذلك الوقت؟ أليست هي الوحيدة في الخليج التي تكفلت بنقل أصحاب الأعمال الخليجيين الأوائل والأجانب الباحثين عن الاستثمار في المنطقة؟ ألم تكن الوسيلة الوحيدة لتنقل المهندسين المنقبين عن النفط في الدوحة والدمام وعمان والشارقة وأبوظبي؟ ألم تساهم في تنمية الاقتصاد الوطني وأصبحت علامة حضارية لرقي البحرين لأنها تنطلق من مطارها باتجاه تلك المناطق، ومؤشراً على رفاه الراكب ومستواه الاقتصادي في وقتٍ كان الأغلبية يركبون البحر وسيلةً للتنقل بين مناطق الخليج؟ هذا الطيران العريق الذي يرجع إلى العام 1940 عندما أسسه طيارٌ في قوة الدفاع الجوي البريطاني يدعى فريدي بوسورث، حيث بدأت بخدمة التاكسي الجوي air taxi service باتجاه الدمام والدوحة والبحرين، وارتقى في 1950 إلى طيران الخليج gulf aviation بعد تملك BOAC (شركة ما وراء البحار البريطانية) 22 في المئة من أسهمها، فبدأت رحلاتها الدولية في الستينيات من القرن الماضي، إلى أن تغيّر اسمها إلى GULF AIR بعد أن تملكتها أربع دول خليجية هي البحرين وعمان والدوحة وإمارة أبوظبي، ثم انسحبوا منها تباعاً بعد أن أسسوا شركاتهم الوطنية لتتملكها مملكة البحرين، حتى تعرّضت للانهيار والتهاوي على رؤوس موظفيها الوطنيين.
فكيف لشركة تمتلك الخبرات والعراقة والاسم التجاري المميّز تتعرض إلى نكسات بهذه الدرجة في الوقت الذي يحقق الطيران في باقي المنطقة أرباحاً خيالية؟ الشائعات تتحدث عن تسريح بالآلاف، فكيف سيكون وضع هؤلاء الكادحين بعد أن يلقى بهم في سوق العطالة وكأنهم ليسوا في بلد يوظف مئات الآلاف من الأجانب؟ أليست هذه مفارقةً عجيبة؟ بالتأكيد لم يكن غلاء الوقود ولا خروج شركات طيران محلية أو دولية منافسة ولا قدم الأسطول سبباً لهذا التردي، بل إن الفساد الذي اتخذ أشكالاً وألواناً حتى صرعها فأصبحت عظاماً بلا لحم ولا حليب. كانت بقرة حلوباً تحلب قناطير دون حسيب ولا ورقيب، بحسب أقوال الموظفين والمطلعين والتقارير الفنية من لجان التحقيق. ولم يسعفها أي مسئول طوال تاريخها، بل بعد أن عجز أغلبهم عن إيقاف السرقات والتلاعب وعدم الجدية في الحفاظ على المال والتوظيف بحسب المحسوبية أو لأغراض خاصة وترقية من لا يكون مناسباً وتسريح الأكفاء، ينقلب من عون إلى فرعون بعد أن يعرف «أين تؤكل الكتف» فينهل من حليبها.
وعجزت ملايين الدنانير عن تنشيطها لأن الفساد ظل كما هو، والآن جاء الدور على الموظف الوطني. فكم سيخفض التسريح من الأجور المتكررة 10 في المئة؟ إنه لا يكفي لعودة الشركة، وليس هو السبب أساساً في المشكلة، وإذا أردتم السبب فابحثوا عن الفساد. لقد سرحتم طيارين بحرينيين وجلبتم أجانب، وسرّحتم موظفين وأبقيتم على الأجانب، ولن تتغيّر السيرة هذه المرة.
المصيبة أن المسرّحين لن يجدوا وظيفةً ولا مأوى، ولن يكون مصيرهم إلا الاصطفاف في سوق العاطلين… ولا نعتقد أن شركات المنطقة سترحّب بتوظيفهم رغم كفاءتهم لأسباب يعلمها الكثيرون!
ربما تقليص العمالة في الشركات الخاسرة عملية لا مفر منها، ولكن ألا يقال «ان آخر العلاج الكي»؟ فهناك معايير في التقليص لا ينبغي أن يتجاهلها الطبيب. فعليه أولاً تجفيف منابع الفساد ونحن نشك بذلك، والحفاظ على الوطني لأنه أساس الربح ومن أجله تقام المؤسسات الاقتصادية. والمفاجأة غير السارة هي حذف المادة رقم 13 وإزالتها من قانون العمل الجديد والتي كانت تحمي المواطنين من التسريح، والتي تنص: «على كل صاحب عمل أن يراعي عند استخدام أي عامل وجوب منح الأفضلية للوطني أولاً ثم لغيره من العرب ثانياً، وذلك كلما وجد الوطني أو العربي وكان صالحاً لأداء العمل الخاص الذي يُستخدم فيه. وفي حالة زيادة عدد العمال عن حاجة العمل يجب الاستغناء عن غير العربي قبل العربي أو الوطني، وعن العربي قبل الوطني، وذلك كلما كان الوطني أو العربي صالحاً لأداء العمل». فهل إلغاء هذه المادة جاء تسهيلاً للدولة وأصحاب الأعمال على التخلص من العاملين المواطنين؟ إن انتشار إشاعة تفيد بالتخلص من نحو ألفي موظف في شركة طيران الخليج، أصبحت تسري بين أروقة الشركة ذاتها وفي المجالس والمنتديات والمقاهي الشعبية. ولنا أن نتخيّل وقع هذه الإشاعة على نفوس الموظفين المواطنين وبالتالي على إنتاجيتهم، ومقابل ماذا؟ بدل مبلغ زهيد كي يتم تفضيل الأجنبي ليبقى في الشركة معززاً مكرماً. فهو لا يثق بالقضاء على الفساد رغم الوعود التي جاءت بمقابلات الصحف. كما أن راتبه التقاعدي سيكون ضئيلاً لا يُسمن ولا يُغني من جوع.
إن ألفي عائلة بحرينية ستتشرد وستبكي دماً على رزقها بسبب التسريح الجائر، وكان الأولى تسريح الأجانب وضبط الإدارة وتوقيف استغلال الشركة من المحسوبية والفساد الإداري والمالي وإبعادها عن أي قرار طائش يؤثر في إنتاجيتها، ويوقف الخطوط المربحة ودراسة الخطوط الرابحة وضخ دمٍ جديدٍ من الإدارة الوطنية بصلاحيات ورقابة، فلن يحمي الشركة إلا الموظفون المواطنون… فهي رزقهم الوحيد واعتزازهم كلما حقّقت نجاحات.