د / علي محمد فخرو
كل يوم يمر على ثورات وحراكات الربيع العربي يتضح أكثر فأكثر أنه لا يكفي أن ترفع الثورات شعارات
وأهداف المستقبل إذا لم يصاحب ذلك إزالة معوقات الماضي والحاضر، بل وتطهير الماضي والحاضر من شتى أنواع المدنسات .
نعم، كان لا بد من إعطاء الأولوية القصوى لإقصاء شخوص الاستبداد الرسمي من على عروش الحكم، لكن ذلك غير كاف، إذ إن الثورات تحتاج لأن تنتقل بسرعة إلى تعطيل آليات الإفساد السياسي الذي يسهل تواجد الاستبداد السياسي كشخوص وكمؤسسات، وكعلاقات بين المجتمع وسلطة الدولة .
من أهم وأفتك آليات الإفساد السياسي آلية الطائفية السياسية . تواجد الطائفية السياسية إبان فترات الحكم الاستبدادي لا يزيد عن كونه إحدى الأدوات، ضمن قائمة طويلة من الأدوات الأخرى التي يستعملها المستبدون للهيمنة على المجتمعات والاستغلال، واستباحة ثروات الشعوب وللبقاء في الحكم إلى أبد الآبدين . أما تواجد الطائفية السياسية إبان فترات ما بعد الثورات، الرافعة لشعارات الديمقراطية والمساواة في المواطنة وحقوق الإنسان، وغيرها من القيم السياسية الجامعة التي تسمو بالحياة الإنسانية، فإنها قادرة على تدمير الثورة أو حرفها عن مبادئها، ونكوصها نحو الوراء .
من هنا الأهمية القصوى للبدء في الحال بإيلاء أولوية متقدمة لموضوع الطائفية السياسية التي تستغل أجواء التحسس النسبي لممارسة الحرية في الحياة السياسية العربية لتطرح نفسها بقوة وبأشكال خبيثة بألف قناع . إنها اليوم ماثلة بصور متعددة في تونس ومصر وليبيا والعراق وسوريا ولبنان واليمن والأردن، وهي تنتظر الوقت المناسب لتظهر في الأقطار العربية الأخرى . باسمها يجري تدمير أقطار عربية وتهيأ أقطار للتقسيم والتجزئة، وتحفر شروخاً عميقة بين مكونات مجتمعية عاشت عبر القرون في سلام وتفاهم . وباسمها، وهي تقبع وراء قناع ديني يدعي القداسة ويفتري على الله الكذب . تجري محاولات سرقة الثورات، واستغلال الجهد الشبابي الثوري وتضحياته المبهرة، وذلك تمهيداً لبناء أنظمة حكم تدّعي الديمقراطية، والديمقراطية الإنسانية العادلة المتناغمة مع القسط والميزان الإلهي منها براء . ومرة أخرى، كعادتنا في بلاد العرب، وباسم الخصوصية الثقافية، تجري محاولة بناء ديمقراطية مشوّهة يتحكم فيها عقل سياسي طائفي دوغمائي منطلق من نعرات تاريخية بليدة، ومن مظالم لا دخل لشباب الثورات العربية بها ومن مشاعر مكبوتة عبر القرون يراد لها أن تنفجر وتطفو على السطح الآن .
إن مثيري الفتن الطائفية السياسية في الشوارع وعلى المنابر الإعلامية والذين يغطونها بعباءة الدين، يعلمون جيداً أن الفتن الطائفية الإسلامية لم تكن أكثر من نزاعات سياسية مبنية على منطلقات قبلية، وأن الأطماع الدنيوية وأنظمة الحكم الاستبدادية الفاسدة أبقتها مشتعلة عبر القرون، وأن فترات الاستعمار قد استغلتها أبشع استغلال لمصلحة المستعمر، وأن الحلف الصهيوني الغربي يزيد الآن حطب نارها في كل دقيقة . . ومع ذلك، وبالرغم من الأحلام العظيمة للثورات المباركة تستعمل تلك الفتن في إثارة أحداث وصراعات يومية تنهك المجتمعات العربية التي تريد أن تتعافى .
الثورات العربية إذن يجب أن تلتفت لهذا الموضوع في الحال، لتهميشه كموضوع حياتي يومي . وتهميشه لا يمكن أن يبدأ إلا من خلال إنعاش الهوية الوطنية الجامعة، والانتماء القومي الجامع كشعارات وممارسات يلمسها المواطن العربي يومياً في إعلام الثورات وقوانينينها، وعدالة توزيعها للثروات المادية والمعنوية، والإصرار على إقصاء كل من يخلط الدين بسموم الطائفية في الحياة السياسية العربية الجديدة . ولذلك فأمام محاولة الفكر السياسي الطائفي جعل الناس يعيشون أجواء وأعياد وطقوس الحياة الطائفية، فإن الثورات مدعوة للبدء ببناء أجواء وأعياد وطقوس الحياة الثورية الجديدة في المدرسة والشارع وفي وسائل الإعلام الجماهيرية .
إن العقل السياسي الطائفي لا يرى له هدفاً غير إعادة التوازن بين المذاهب والطوائف وتقسيم الثروات والسلطات في ما بين المنتمين لها . أما العقل السياسي الوطني والقومي غير القبلي والديني غير الطائفي، فإنه لا يؤمن بالمقاسمات الطائفية والمذهبية والقبلية، لأنه يتخطاها إلى عوالم الحقوق الإنسانية والمسؤوليات الأخلاقية والمساواة في المواطنة والعدالة في الحكم وكرامة الإنسان منذ نشأته وحتى مماته . عند ذاك لن يحتاج الإنسان العربي إلى قبيلة تحميه أو شيخ مذهب يدافع عن حقوقه أو راع يمن عليه بالمكرمات، أو هيئات ودول أجنبية تتدخّل لإنصافه، أو مؤسسات وساحات دولية ليعرض عليها وفيها مظالمه .
مجتمعات ما بعد الثورات والحراكات العربية تحتاج لأن تطهّر نفسها، بالسرعة القصوى، من دنس العقل السياسي الطائفي وممارساته وأكاذيبه . هذا موضوع من مواضيع الساعة لا يمكن تأجيله، إذ لن يتم بناء راسخ قبل حسم هذا المرض التاريخي الذي باسمه يدمر الحاضر ويزور المستقبل .