د / يوسف مكي
منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية في مطلع العام ،1965 مرت قضية تحرير فلسطين بمحطات عدة، كانت المحطة الأولى فيها، قد تزامنت بتوافق عربي وفلسطيني، على تحرير كامل التراب الفلسطيني، والقضاء على الكيان الصهيوني . وخلال المرحلة الأولى، مثل اللاجئون في المخيمات، بسوريا والأردن ولبنان العمود الفقري للثورة الفلسطينية . ولم يكن للفلسطينيين بالداخل، سواء بالأراضي التي أقيم عليها الكيان الغاصب، أو بالضفة والقطاع، دور يستحق الذكر في قيادة الكفاح الفلسطيني . وهو ما يفسر التمسك الفلسطيني الراسخ، بتلك المرحلة بالتحرير الكامل، وبحق العودة .
إثر احتلال الكيان الصهيوني، للضفة والقطاع في عدوان ،1967 تغيرت الصورة، وأخذ التحول يسير تدريجياً، نحو انتقال جاذبية الصراع مع العدو، من المخيمات بالشتات إلى الأراضي المحتلة . ومنذ منتصف السبعينات، شهدت الضفة والقطاع نهوضاً شعبياً، في مواجهة المحتل .
ومع التراكم النضالي والتاريخي لكفاح الفلسطينيين، بالضفة والقطاع، وهزيمة الفلسطينيين بالأردن، وهشاشة وضع المقاومة في لبنان وسوريا، تغيرت أهداف الكفاح الفلسطيني ووسائله، فأصبح التوجه نحو إقامة سلطة فلسطينية، بالأراضي التي ينسحب منها العدو، إما بالكفاح المسلح، وإما عن طريق المفاوضات والحلول السلمية . واتجه النضال الفلسطيني إلى المزاوجة بين حمل السلاح والتفاوض للوصول إلى حلول سلمية للصراع مع العدو الصهيوني .
مرحلة النهوض بالضفة والقطاع، كانت المقدمة، لمحطة أخرى، تمثلت في الدعوة، تحديداً إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، عن طريق المفاوضات، بما يتضمن الاعتراف بوجود دولتين مستقلتين على أرض فلسطين التاريخية، دولة “إسرائيل” في الحدود التي قامت عليها منذ تأسيس الكيان الصهيوني العام ،1948 حتى نكسة حزيران، ودولة فلسطينية على أراضي الضفة والقطاع .
الانتقال إلى هذه المحطة، رغم صخب الشعارات التي طغت عليها، عنى التنازل عن حقوق كثيرة للفلسطينيين، حقوق قانونية أقرت بها هيئة الأمم المتحدة، وأهمها قرار تقسيم فلسطين رقم 181 الذي قسم فلسطين مناصفة بين اليهود والسكان الأصليين . وهو قرار رفضه العرب، لأسباب عدة أهمها أن فلسطين هي أرض عربية لا يملك أي أحد كائناً من كان حق التفريط فيها . وأيضاً لأن القرار لم يأخذ بعين الاعتبار، النسبة والتناسب بين أعداد السكان الأصليين، الفلسطينيين العرب، والمهاجرين الجدد الذين سطوا على الأرض .
وعنى أيضاً، أن القيادة الفلسطينية، منحت نفسها حقوقاً، لم يمنحها لها الفلسطينيون بالشتات، هي التنازل عن أرضهم في حيفا ويافا والناصرة، وبقية المدن والبلدات التي سطا عليها الصهاينة العام ،1948 وذلك في محصلته يعني أن القيادة تنازلت عن حق العودة، حتى وإن لم ينص على ذلك في وثائق رسمية موقعة بين هذه القيادة والكيان الصهيوني . كما أنها انتقلت بمفهوم الصراع، من صراع وجود إلى صراع على مناطق متنازع عليها، بين “شعبين” . وجردت الصراع العربي الصهيوني، من أبعاده التاريخية والحضارية .
وبانتقال القيادة الفلسطينية، إلى التفاوض السلمي، والمباحثات الماراثونية، منذ اعتراف الإدارة الأمريكية بمنظمة التحرير برئاسة ياسر عرفات، في نهاية الثمانينات من القرن المنصرم، فإنها حرمت الفلسطينيين من حق الدفاع عن النفس، وحق تقرير المصير، في مواجهة المحتل، وهو حق ضمنته شرعة الأمم، ومبادئ القانون الدولي .
والنتيجة المنطقية، لهذا الانتقال، في الأهداف والاستراتيجيات، هو تتويج ذلك بإلغاء كل المواد التي تؤكد الحرص على تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وأيضاً حق عودة اللاجئين بالشتات إلى ديارهم، والقبول بإقامة دويلة فلسطينية على أقل من عشرين في المئة من فلسطين التاريخية . وقد صدق على هذا الانتقال، إعلان الاستقلال الصادر عن المجلس الوطني للمنظمة في الجزائر العام ،1988 والذي حظي بموافقة أغلبية أعضاء المجلس على مشروع “الدولة” على أي جزء يتم تحريره من فلسطين باعتباره هدفاً مرحلياً تكون الدولة فيه “لاستكمال مشروع الثورة والتحرير والعودة” .
وليس من شك، في أن العبارة الأخيرة، هي من باب ذر الرماد بالعيون، ذلك أن التناقض واضح وصريح، بين الاعتراف بمشروعية وجود الكيان الصهيوني، والتنسيق الأمني معه، وبين اعتبار قيام الدويلة الفلسطينية بالضفة والقطاع، خطوة على طريق التحرير الشامل للأرض الفلسطينية
المحطة الأخيرة من الصراع، هي أنه في غمرة انشغال قيادة منظمة التحرير، بإقناع المجتمع الدولي والصهاينة، بالاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة، بالضفة والقطاع، يضمّ الصهاينة أكثر من 53 في المئة من تلك الأراضي، ولم يتبقَّ ما يمكن التفاوض بشأنه سوى 47 في المئة، يجري بناء المستوطنات الصهيونية فوقها الآن بشكل حثيث، بحيث لا يبقى في نهاية المطاف ما يمكن التفاوض عليه .
في المحطة الأخيرة، أيضاً وجود سلطتين فلسطينيتين، أحداهما في رام الله والأخرى في قطاع غزة . ورغم كل ما يقال عن مفاوضات واحتمالات الوحدة بين الشطرين، فإن كل المؤشرات تقول باستحالة ذلك، فقد رفضت حماس الوحدة مع القطاع، يوم لم يكن لها حلفاء في مصر وتونس وليبيا، ويوم لم تعلن نصراً مؤزراً على الصهيانية . فكيف يمكن أن تقبل الآن بذلك، وقد حصدت الكثير، وأصبح بحوزتها أوراق ضغط كثيرة على سلطة “أبومازن”، ليس أقلها قبول الصهاينة لها، وتوقيعهم اتفاقية هدنة معها .
هل نحن على أبواب انتقال تاريخي؟ أو أن ما بني على خطأ سيكرس نماذج بائسة، عاجزة عن مقابلة استحقاقات الشعب الفلسطيني في التحرير والعودة؟ . . أسئلة في الجواب الصحيح عنها، تكمن استراتيجية الخروج من النفق، وإعادة الاعتبار إلى قضية فلسطين .