قاسم حسين
من أهم ما شهده الحراك السياسي في الربيع العربي، بروز حركة حقوقية نشيطة رافقته من الأيام الأولى.
كان الدور الذي لعبه الحقوقيون العرب كبيراً، ومتجاوزاً لعقود من العمل السياسي التقليدي. فقد كان الأداء السياسي فيما مضى ينحصر بين الأنظمة والحركات السياسية المعارضة التي تمثل النخبة، قومية أو يسارية أو إسلامية، وكانت تنتهي هذه الحركات بالتصفية والسجن والملاحقات حتى أصبح العرب من أكثر الشعوب في الأرض تعرضاً للنفي.
الحراك الجديد اعتمد أسلوب المعارضة السلمية، استفادة من تجارب الشعوب الأخرى، فأحرج بذلك الأنظمة، التي بوغتت بأسلوب غير مألوف، وهو ما يفسر الإرباك والتخبط الذي سيطر على سياساتها لفترةٍ طويلةٍ.
تزامن مع ذلك الدور الذي لعبته الحركة الحقوقية التي بنت نفسها خلال العقد الماضي، وقاومت أساليب الإقصاء والاستعداء والتشويه المبرمج باتهامها الدائم بالتسييس. مع أن التجربة التاريخية تشير إلى ارتباط الحركتين السياسية والحقوقية بصورةٍ وثيقةٍ لا انفصام لها، في مختلف تجارب الشعوب، وبالخصوص في الهند وجنوب إفريقيا، اللتين قاد حركتيهما محاميان (المهاتما غاندي ونلسون مانديلا). بل إن حركة النضال ضد بقايا السياسات العنصرية في الولايات المتحدة التي استمرت حتى الستينات، قادتها «حركة الحقوق المدنية». وهي حركةٌ إنسانيةٌ شاملةٌ، شارك فيها ناشطون سياسيون وحقوقيون ومحامون ورجال دين وصحافيون وكتّاب وطلاب. ولم يتهمهم أحدٌ بالتسييس وما شابه من خزعبلات كالتي تُكتب وتُنشر من قبل الجيوب المحتقنة عنصرياً في بلداننا المتخلفة في مجال احترام حقوق الإنسان.
في الربيع العربي، شهدنا بروز الحركة الحقوقية العربية، في موازاة الحراك السياسي المطالب بالحرية والخبز واسترجاع الكرامة. وما كان للحراك العربي أن يكون له هذا الدويّ لولا تطور وسائل الاتصال الحديثة، ووجود نخبة من الحقوقيين المهنيين الذين رهنوا أنفسهم لأداء مهمةٍ نبيلةٍ في هذه الحقبة من التاريخ العربي.
الاستباحات والانتهاكات والجرائم ضد الإنسانية كانت كبيرة في العقود الماضية، وكان ألف ضحية يسقط في السجون والمعتقلات دون أن يسمع بهم أحد، إلا من القلة المهتمة بالسياسة والمتّهمة بالتدخل فيها. وكان ألف خالد سعيد قُتل على أيدي رجال المخابرات، وكُسرت أسنانه وشُوّه وجهه، لكن لم يكن هناك كاميرا تصوّر، ولا حركة حقوقية ترصد، فكان الضحية يُدفن ليلاً، بعلم أهله أحياناً، وبدون علمهم أحياناً أخرى.
آلاف الضحايا العرب تعرضوا لإعاقات سمعية وبصرية وحركية وهم في المعتقلات، وكثير منهم خرجوا بإعاقات نفسية واضطرابات ذهنية، لم يسمع عنهم أو يشعر بهم غير عوائلهم وأهلهم المقرّبين. الآن الوضع تغير. لقد أصبحت هناك حركةٌ عربيةٌ نشيطةٌ لرصد وتوثيق كل انتهاكٍ وجريمةٍ وتجاوزٍ لحقوق الإنسان. لم يعد العربي مخلوقاً رخيصاً يستباح دمه في مسالخ الأنظمة… فقد أصبح هناك من يرصد ويوثّق ويتابع ويسهر، ممن وهبوا أنفسهم لأداء هذه المهمة الإنسانية النبيلة المناهضة هذه الحرب الجنونية، التي تُستباح فيها الدماء والأعراض والأموال وحرمات المنازل وأماكن العبادة والكرامات.
من هنا، إذا كان العام 2011 عام صعود الحركة الحقوقية العربية، فإن العام 2012 كان عام محاولة محاصرتها ووأدها ومعاقبتها بشدةٍ، سجناً، وتعذيباً، وتلفيقاً للتهم، وعزلاً لهذه الشموع عن العالم القريب والبعيد.
هذه النخب انتهت جميعاً لتحقيق أهدافها، بعد عقودٍ من الاضطهاد والسجن والملاحقات والصبر المرير، لأنها ببساطةٍ وقفت إلى الجانب الصحيح من التاريخ… وانحازت إلى قضية الإنسان.