د. حسن نافعة
وراء مشهد حزين، يبدو في مرحلته الراهنة ملبداً بغيوم كثيفة تحجب الرؤية ويسقط فيه الشهداء والجرحى بالمئات، تتخفى أشعة شمس لن تلبث أن تشرق من جديد. فالانتفاضة المشتعلة الآن في ربوع مصر تثبت أن الشعب المصري صانع الحضارات مازال حياً وفاعلاً ومصمماً على أن يصنع مستقبله بنفسه بعد أن سلبه ممارسة هذا الحق، على مدى قرون طويلة، حكام طغاة بغاة نصبوا من أنفسهم آلهة، ومارسوا قهره تحت مختلف الشعارات.
ما يجري على ضفاف النيل ليس ثورة جديدة وإنما مرحلة من مراحل نفس الثورة العظيمة التي فجرها شباب مصر في 25 يناير مطالباً بالحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. ولأنها ثورة كانت تفتقد إلى المقومات التي تسمح لممثليها الحقيقيين بالاستيلاء على السلطة والشروع في بناء مؤسسات نظام قادر على تحقيق أهدافها، كالقيادة والتنظيم والأيديولوجيا، فقد كان من الطبيعي أن تمر بأطوار وبمراحل متعددة قبل أن تستقر مؤسسات النظام الذي تسعى لتأسيسه. وعلى الرغم من أنها لم تتمكن حتى الآن من استكمال بناء النظام الذي تطمح إليه، إلا أن أكثر ما يلفت الأنظار في مسيرتها الطويلة هو يقظة الشباب الذي فجّرها والذي يصر على أن يظل حارساً أميناً عليها ومستعداً لتقديم كل التضحيات الضرورية لحمايتها وضمان وصولها إلى بر الأمان.
ورغم تعدد الأطوار التي مرت بها ثورة يناير الكبرى عبر مسيرتها الممتدة لما يقرب من عامين، إلا أنه يمكن التمييز بين مرحلتين أساسيتين: الأولى، بدأت مع تولي المجلس الأعلى للقوات المسلحة السلطة، وامتدت حتى الانتخابات الرئاسية في يونيو الماضي، والثانية: بدأت مع تولي الدكتور محمد مرسي مقاليد السلطة في 30 يونيو الماضي ولاتزال مستمرة حتى الآن. وها هي الثورة تبدو على وشك الولوج إلى مرحلة ثالثة يصعب التنبؤ بملامحها الحقيقية منذ الآن. كانت المرحلة الأولى قد اتسمت باختلاط شديد في الرؤى حول موقف قوتين أساسيتين على الساحة شابه الالتباس والغموض.
فقد كان هناك، من ناحية، جيش أمسك بمقاليد السلطة دون أن يكون بمقدور أحد أن يتنبأ بنواياه الحقيقية أو بمدى قدرته على إدارة المرحلة الانتقالية بالكفاءة والحياد الواجبين، كما كان هناك، من ناحية أخرى، جماعة دينية تبدو أكثر القوى السياسية الموجودة على الساحة تنظيما، لكن لديها مشروع سياسي خاص يخشاه الكثيرون. ففيما يتعلق بموقف الجيش من الثورة، بدا الالتباس واضحا بين حالة انبهار يغذيها تاريخ وطني مشرف، وحالة خوف أو حذر من قيادة اختارها النظام السابق وكانت موضع ثقته التامة. أما فيما يتعلق بموقف جماعة الإخوان فقد بدا الالتباس واضحا بين موقف صنعه تقدير للتضحيات التي قدمتها الجماعة في مقاومة النظام السابق، وخوف من محاولة استغلال لحظة السيولة الثورية لفرض مشروعها السياسي الخاص.
كان بوسع أي مراقب مدقق لما جرى في تلك المرحلة استخلاص حقيقتين على جانب كبير من الأهمية. الحقيقة الأولى: أن نقص الخبرة السياسية لدى قيادة الجيش، وولاءها العاطفي، وربما المصلحي، لنظام تولى قيادته رجل خرج من بين صفوفها، كانا من بين عوامل أخرى كثيرة أدت إلى تبنيها لنهج إصلاحي لم يكن يخلو من انتهازية واضحة. فقد بدا المجلس العسكري، وعلى عكس ما يشير إليه التاريخ الوطني للمؤسسة العسكرية المصرية، على استعداد للتعاون مع جماعة الإخوان إلى حد الرغبة في اقتسام السلطة معها حتى لو كان الثمن هو الدخول في صدام دموي مع العناصر الشبابية التي صنعت الثورة.
الحقيقة الثانية: أن الانتهازية السياسية التي اتسم بها سلوك جماعة الإخوان دفعتها لرفع شعار «مشاركة لا مغالبة» في وقت كانت تسعى فيه في الواقع لفرض هيمنتها المنفردة، حتى لو كان الثمن هو خيانة الثورة وفك ارتباطها مع الفصائل التي شاركت في صنعها. وقد أسفرت لعبة القط والفأر التي دارت بين الطرفين في تلك المرحلة عن تمكن الجماعة من السيطرة أولاً على البرلمان، في فترة هدنة، ثم من الوصول إلى مقعد الرئاسة، في فترة صراع بدا مستتراً في البداية قبل أن يتحول إلى صراع مفتوح انتهى بتمكن المجلس العسكري من حل مجلس الشعب والاستمرار في السلطة تحت ذريعة أنه أصبح مخولاً بممارسة سلطة التشريع بعد حل مجلس الشعب.
أما المرحلة الثانية فقد اتسمت بدورها باختلاط شديد في الرؤى بين قوى سياسية بدا بعضها حريصا على سرعة الانتهاء من بناء مؤسسات النظام الجديد وفق ما تقرره صناديق الاقتراع، أيا كانت نتيجتها، بينما خشى بعضها الآخر من هيمنة جماعة الإخوان إلى الدرجة التي بدا فيها مستعدا لعمل أي شيء لقطع الطريق عليها، حتى لو كان الثمن تزوير إرادة الشعب أو تفضيل بقاء الجيش كمشارك في السلطة أو حتى التحريض على انفراده بها. وفي ظل الصراع المحتدم على السلطة بين الطرفين لاحت لحظة اعتقد فيها البعض بإمكانية التوصل إلى حل وسط تاريخي تقود فيه الجماعة بنفسها عملية التحول الديمقراطي في مقابل الالتزام بإدارة مشتركة لما تبقى من المرحلة الانتقالية.
وفي سياق هذه الرغبة في التوصل إلى حل وسط تاريخي جرت مفاوضات في فندق «فيرمونت»، عقب الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة وقبل إعلان نتائجها كنت أحد شهودها، أسفرت عن موافقة الدكتور مرسي على نقاط ست كان من بينها: تشكيل حكومة قوية تقودها شخصية مستقلة، وتحويل الرئاسة إلى مؤسسة حديثة لا ينفرد فيها شخص واحد بصناعة القرار، وتصحيح الخلل الذي أصاب تشكيل الجمعية التأسيسية… إلخ.
غير أن ممارسات الجماعة خلال الشهور الستة الماضية أثبتت بما لا يدع مجالاً أنها لم تكن راغبة في هذا الاتفاق ولم تتح للرئيس مرسي تنفيذ ما التزم به. ولأن هذا الوضع الجديد كان أكبر مما يمكن للشباب الذي فجّر ثورة 25 يناير أن يحتمله فقد كان على استعداد للنزول إلى الشارع من جديد، لتبدأ مرحلة ثالثة في مسيرة الثورة، وتلك هي المفاجأة التي لم تتوقعها الجماعة ولم تتحسب لها.
لم تدرك الجماعة بعد أن مصر أكبر منها، وحين تدرك هذه الحقيقة سيصبح العثور على مخارج للأزمة تحقن الدماء وتفتح الطريق أمام التأسيس لنظام ديمقراطي حقيقي أمراً ممكناً.