قاسم حسين
يبدو أننا سندخل مرحلةً جديدةً من مراحل محاكم التفتيش، بهدف ملاحقة الناس ومحاسبتهم على أفكارهم والبحث في جماجمهم عمّا يؤمنون ويعتقدون.
لا نعتقد أن من مسئولية أجهزة الأمن التفتيش في صدور الناس، وملاحقتهم على أفكارهم، ومعاقبتهم على معتقداتهم، سواءً كانوا خطباء أو رواديد أو شعراء أو كتاباً، فضلاً عن الناشطين الحقوقيين والسياسيين. مثل هذه الرقابة اللصيقة للبشر قد تبث بعض الخوف، لبعض الوقت، في نفوس بعض الأفراد، إلا أنها لن تغيّر من قناعاتهم، أو تبدّل أفكارهم، أو تكبح تطلعاتهم نحو غدٍ أفضل سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
تاريخ قمع الأفكار في مختلف دول العالم، شرقاً وغرباً، يثبت أن الأفكار المقموعة تتطوّر وتتقوى وتنغرس أكثر في الصدور. صراع الأفكار يتم في الساحات والمجالس والصحف والمنتديات العامة، وليس في أقبية السجون.
قبل قرون، كانت ترجمة كتابٍ فكري إلى لغةٍ أخرى تحتاج إلى عشرات السنين، أما اليوم فتجري أكبر عملية تبادل أفكار في التاريخ عبر وسائل التواصل الاجتماعي. فالشاب يستطيع خلال ثوانٍ أن يراسل أستاذاً جامعياً أو لاعباً أو ناشطاً حقوقياً في بلد بعيد، ويحاوره في أية قضية يُمنع تداولها في الإعلام الرسمي. والتهديد بإعادة قيود الرقابة القديمة تبدو خارجةًً من داخل كهف. إنها باختصار، سباحةٌ ضد حركة التاريخ.
في الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي، لم تستخدم الدبابات والقاذفات الاستراتيجية والأسلحة النووية، وإنما كانت حرب أفكار وتنافُسٌ على العقول. هذه كانت استراتيجية الغرب، التي استمر فيها أربعين عاماً، حتى انتهت بتفكيك المعسكر الشرقي وانهيار جدار برلين. كانت صراعاً بين فكرة الحرية الملهمة للشعوب، وفكرة البقاء رهائن لدى الحزب الحاكم الواحد القائد.
هذه التجارب طُبّقت في عددٍ من أنظمة العالم العربي، حتى انتهت إلى أنظمة حزبية مغلقة، ذات دوائر ضيقة، يتم توريث الحكم لأبناء الرئيس كما في مصر واليمن وسورية. وحين ينتقد أحدٌ الوضع السياسي يُتهم بالعمالة للخارج، والإرهاب وأكل الكباب! وحين تجرّأ أحدهم على ترشيح نفسه للانتخابات ضد حسني مبارك، لفقت له تهمة واُلقي في السجن بضع سنين. كل العالم تقدّم واستجاب لإرادة الشعوب في الحرية والتغيير، إلا منطقتنا العربية، إذ قمنا بتهجين الديمقراطية وتدجينها حتى أصبحت أضحوكةًً تسخر منها شعوب الكرة الأرضية.
هل نريد أن نكرّر التجارب الفاشلة؟ وإلامَ قادنا إحكام قبضة الأمن وتكميم الأفواه في العقود الماضية وملاحقة الناس على أفكارهم ومعاقبتهم على ما يؤمنون؟ وهل نجح أي نظام عربي في تحقيق التنمية ونهضة الوطن؟
ثم ماذا نتوقع من خطيبٍ يرتقي منبراً حسينياً غير الحديث عن كربلاء وما فيها من آلامٍ وأحزانٍ وظلمٍ حاق بأهل بيت النبي محمد (ص)؟ وهل أصبح الحديث عن الإمبراطوريات الغابرة التي سادت ثم بادت، جريمةً يُحاسب عليها القانون؟ وفي أي قانون يُجرّم ذكر وقائع التاريخ الإسلامي التي تُدرّس في الكتب المدرسية؟ وعن ماذا تريدون الخطيب الحسيني أن يتحدّث إن حُجر عليه الحديث عن الحسين ومناوئيه في تلك الواقعة التي اقشعر لها التاريخ؟
ثم أيّ منطقٍ يحكم بأن ذكر تاريخ الدول «إساءةً» للحكام الغابرين؟ وماذا نفعل بآيات القرآن الكريم التي تأمر بقراءة التاريخ؟ وماذا ستفعلون بأقسام التاريخ في الجامعات العربية؟
إننا نوشك أن ندخل في مرحلة من الغيبوبة الحضارية، حيث تصادر الآراء وتخنق حرية التعبير، ويُستخف بالعقل ويموت الضمير. فكيف ستنظر الأجيال إلينا إذا قرأت بعد خمسين عاماً، أن خطيباً اعتقل واستُجوب لأنه تحدّث عن معركةٍ تاريخيةٍ وقعت قبل 1373 عاماًَ بتهمة الإساءة إلى امبرطورية قديمة؟