الرد على الاغتيال السياسي…
في قلب منطقة سكنية – تجارية – تمتاز بحيوية مجتمعية، وتتقاطع فيها وصلات الطرق إلى قلب بيروت وأطرافها وضواحيها، قطّع انفجار عصر التاسع عشر من تشرين الأول شرايين الحياة فيها، ودمر ما طالته مديات التفجير، واسفر عن خسائر كبيرة في البشر والحجر، واستمر الغموض ساعات، لمعرفة ما إذا كان التفجير موَّجه ضد هدف محدد، أم أنه تفجير عشوائي لا هدف له سوى خلق حالة من الرعب الاجتماعي وإيقاع الإيذاء بالممتلكات وشل دورة الحياة النشطة في هذه المنطقة.
بعد ساعتين ونصف، تبين أن التفجير استهدف شخصية أمنية لبنانية، وفي سياق استهدافها تحول قلب الأشرفية إلى منطقة منكوبة.
إن الشخصية التي استهدفها التفجير، كان رأس المؤسسة الأمنية، التي فككت عشرات شبكات التجسس الصهيوني، ووضعت اليد على مخطط رهيب، وضع قيد التداول تحت اسم حركي هو "ملف ميشال سماحة"، فضلاً عن كشفها لخلايا فاعلة وأخرى نائمة لتنظيمات ذات صلة بتفجيرات وأعمال عنف، إضافة إلى دورها في قضايا ملاحقة الإجرام العادي.
هذا التفجير الذي وضعه رئيساً الجمهورية والحكومة في السياق السياسي لملف ميشال سماحة، يقارب في تقنياته الفتية انفجار 14 شباط/2005، ويقارب في بعده السياسي ايضاً التفجير الذي أودى بحياة الحريري ورفاقه.
إن التفجير الذي أودى بحياة رئيس فرع المعلومات، والذي تحول إلى شعبة بعد الاغتيال، وبعد معاندة طويلة، يكاد يقترب بتأثيراته وانعكاساته من تلك التي نتجت عن اغتيال الحريري.
فرفيق الحريري اغتيل، لأنه قفز فوق خطوط حمراء في السياسة، ووسام الحسن، اغتيل لأنه تجاوز خطوطاً حمراء في الأمن، وكلا التفجيرين أحدثا ارتجاجاً سياسياً كبيراً،بالنظر إلى مفصلية الموقعين اللذين كانا يشغلانهما في السياسة والأمن، وكانا على تماس شديد في العام السياسي والخاص الأمني.
لقد أدى تغييب الحريري بالقتل عن مسرح الحياة السياسية،إلى أحداث فراغ سياسي كبير، نظراً ميزة القطبية التي كان بجسدها على الصعيدين السياسي والاقتصادي، ولاتساع شبكة علاقاته مع الداخل والخارج. ولهذا كان اغتياله بمثابة زلزال سياسي وما تزال تداعياته وارتداداته تتفاعل حتى الآن.
وكما كان اغتيال الحريري قد حصل في سياق سياسي معين، فان اغتيال وسام الحسن يأتي في سياق سياسي أيضاً، وأهم أهدافه جعل لبنان في حالة انكشاف أمني، وبما يمكن القوى والأطراف التي تريد العبث بالأمن الوطني وأمن المواطن، العمل بحرية أكثر، والوصول إلى أهدافها بسهولة، وبعيداً عن أية مراقبة فعلية وجدية.
من هنا، فإن التفجيرات التي تتجاوز البعد الشخصي للمستهدف، سياسياً كان أم أمنياً، تدرج في سياق سياسي، ولا تقتصر أثارها على البعد الشخصي والموضعي، بل تمتد إلى المدى الوطني العام.
تأسيساً على ذلك، فإن الرد على الأعمال الإجرامية والتي تنفذ ضمن سياقات سياسية، يجب أن يكون ضمن سياق سياسي ايضاً، وهذا الرد يجب أن يكون بعيداً عن الانفعالية، وبعيداً عن استحضار الغرائزية ان على المستوى السياسي أو على المستوى الشعبي. وإذا كانت بعض التعبيرات الشعبية غير المنضبطة والعشوائية، تبررها فظاعة الجريمة وتأثيراتها النفسية، فإن هذه التعبيرات إذا خرجت عن حدود الضوابط، فإنها تعطي مفعولاً عكسياً، وتخدم مشاريع من يسعى لتخريب السلم الأهلي، أو على الأقل، توفير مناخات لتصادمات شعبية يعرف الجميع متى وأين تبدأ، لكن لا أحد يعرف متى وأين تنتهي.
من هنا فإن الرد على جريمة بحجم تلك التي استهدفت العميد الحسن، وما يمثل، من خلاله موقعه في هرمية المؤسسة الأمنية التي يرأسها، لا يكون بقطع الطرقات وإشعال الدواليب والحاق الأذى والضرر بمصالح الناس. فمن يقطع طريق في منطقة معينة، تقطع الطريق عليه في مكان آخر، ومن يستحضر أسلوب الإسفاف السياسي في المخاطبة، تستحضر بوجهه أساليب مماثلة، وهذا كلام ليس موجهاً لفريق دون آخر، وإنما لكل القوى السياسية التي تمارس سلطة الأمر الواقع في مناطق معينة، أو تلك التي توالي الحكم أو تعارضه.
وإذا كان الجميع يعرف أن استهداف الحسن لم يكن لذاته وحسب، وإنما من خلاله الأمن الوطني برمته، فإن الرد يجب أن يكون وطنياً وتحت العناوين التالية:
العنوان الأول: موقف حازم من السلطة السياسية وبتعبير أوضح من الدولة بكل مؤسساتها، بأن تكون حازمة في مواجتهتها لمن يثبت أنه يخطط لتخريب السلم الأهلي، ويعمل لرفع منسوب التوتر السياسي المشحون بالمحفزات المذهبية بغية تحقيق أهداف تتعارض وتتناقض مع المصلحة الوطنية العليا، التي تتجسد فيها كل مرتكزات الأمن الوطني بجوانبه السياسية والاجتماعية.
وفي هذا السياق، فإن المواقف التي تطلقها الرئاسة الأول يجب مقاربتها بالاتجاه الإيجابي، سواء في الرؤية لبسط الشرعية لسطلتها، أو في وضوح مواقفها من محاولات ومخططات أتضح بالحس والملموس بأنها تهدف إلى أحداث فتنة سياسية وبعدة شغل مذهبية.
العنوان الثاني: أن تكون القوى السياسية، المشاركة في السلطة أو المعارضة، حازمة في موقفها لجهة رفع الغطاء السياسي على كل مخل بالأمن الوطني وأمن المواطن الحياتي. ان رفع الغطاء السياسي عن العشوائيات السياسية وتلك التي تمارس الجريمة المنظمة ضد اللبنانيين، يمكن القوى الأمنية الشرعية من الإمساك بالوضع، ويسقط مفعول الجزر الأمنية التي باتت تشكل ملاذاً أمناً لمخربي السلم الأهلي. وهذا الموقف يجب أن يمارس بصدقية وشفافية،وبعيداً عن أية تقية يطلق أصحابها موقفاً في العلن، ويمارسون العكس في السر.
العنوان الثالث: ان تسقط عن المؤسسات الشرعية، تشريعية كانت أم تنفيذية، قضائية كانت أم أمنية، صفة التنسيب الطائفي والمذهبي لدورها.
إن هذه المؤسسات، وان كان يشغلها الناس ينتمون طائفياً إلى مذاهب معينة، وبحسب النص الدستوري، إلا أن هذه المؤسسات ليست لطائفة دون أخرى. فرئاسة الجمهورية هي موقع وطني وليس لطائفة بعينها والأمر نفسه ينسحب على رئاسة المجلس السياسي ورئاسة الحكومة وقس ذلك على سائر المؤسسات الشرعية. ولهذا فإذا ما تعرضت هذه المواقع للنقد السياسي أو للمساءلة والمحاسبة، فإن هذا النقد والمساءلة يوجه بالنظر إلى طبيعة الأداء السياسي الذي يؤديه هذا الموقع.
من هنا، فإن حماية هذه المؤسسات من التعرض الأمني، والنيل من أشخاصها، يجب ان يندرج في الإطار الوطني العام وليس عبر الأطر الطائفية والمذهبية. وعليه، فإذا ما حصل استهداف لواحد من أشخاص الحق العام أو لمن يشغل موقعاً في هرمية المؤسسات الشرعية، وقضى بفعل إجرامي كما حصل مع عديدين وأخرهم العميد وسام الحسن، فإن الاستهداف هو للموقع الوطني، وبالتالي فإن حمايته هي مسؤولية وطنية. فمن يسقط وهو يؤدي دوراً وطنياً في الحقل السياسي والمؤسساتي، إنما يكون شهيد الوطنية بغض النظر عن انتمائه الإيماني والطائفي.
من هنا، فإن اغتيال رئيس فرع المعلومات، إنما يدرج في السياق السياسي الوطني، لأنه لم يقتل كونه ينتمي إلى طائفة معينة، بل اغتيل لأنه كان يقوم بمقام وظيفة على درجة عالية من الدقة والحساسية واخترق خطوطاً حمراً، وعطل كثيراً من المحاولات التي رمت لكشف لبنان أمام التجسس الصهيوني، وتلك التي كانت تستهدف السلم الأهلي عبر عمليات تفجير وتخريب واغتيال. ولهذا كان استهدافه، استهدافاً نوعياً، لأن المخططين والمنفذين أرادوا من قتله إزالة عقبة كأداء من أصابهم، وليسهل عليهم اختراق الأمن الوطني، المؤسساتي منه والمجتمعي.
لذلك، فإن الذين نددوا بجريمة الاغتيال، منهم صدقاً وبعضهم تكاذباً، أن يعوا بأن الأهم من التنديد هو توفير التغطية السياسية لدور المؤسسة التي شهد الجميع لدورها في توفير مظلة امن للبنانيين على اختلاف طيفهم السياسي وحتى تبقى هذه المؤسسة محصنة وبعيدا ًعن أي اختراق لها ممن يريد العبث بالأمن الوطني.
إن إعادة الاعتبار لدور المؤسسات في إدارة الشأن العام، هو الذي يحد من غلواء الأطباق الطائفي والمذهبي عليها، وهو الذي سيكون بمثابة اللبنة الأولى، في بناء صرح وطني، تكون الدولة بكل مؤسساتها وأجهزتها في خدمة المواطن وأمنه الوطن وليس مؤسسة تدار على قاعدة المحاصصة الطائفية.
إن إسقاط التطييف على الأداء الوظيفي العام، ينهك العام الوطني ولا يفيد الخاص الشعبي، وعلّ أن تكون دماء الشهداء الذين سقطوا في تفجير الأشرفية، وقبلهم كثيرون سقطوا في عمليات إجرامية، تفجيراً واغتيالاً وخطفاً، دماء مروية لهذه الأرض الطيبة التي ما بخلت يوماً بعطاءاتها، ولا مكنت يوماً غازٍ من الاستقرار فيها، ولا افتقرت لاناس عصاميين ومستعدين للتضحية مهما بلغت جسامتها، ولأجل أن يسود المنطق الوطني، وتبطل أن تكون الطائفية ناظماً للحياة العامة.
أنها دعوة لأن يرتقي الجميع بالخطاب السياسي الداخلي إلى مستوى القضايا الوطنية الأساسية، وذلك عبر زيادة مساحة التوافق السياسي على القضايا الداخلية، وتقديم أجندة المصالح الوطنية على أجندة العلاقات مع الخارج. وعندها لا تكون ساحة لبنان بريداً ميدانياً لتوجيه الرسائل، ولا حديقة خلفية لمن يعمل لتوسيع دائرة هيمنته ووصايته وتقوية مواقعه في دوائر فعله الأساسية.
إن الارتقاء بالعلاقات الداخلية إلى مستوى التوافق على برنامج وطني، يحفظ للبنان مقوماته الأساسية، ويحصن ساحته من اختراقات أمنية وسياسية، هو الذي يشكل مظلة أمن وآمان للبنان، وعندها يمكن القول بأن الرد على الاغتيال السياسي كان بمستوى وعي خطورة هذا المخطط الجهنمي، الذي لن يردع بإجراءات أمنية فنية ولا ببيانات الشجب والإدانة وحسب بل بالموقف السياسي الذي يرى فيه كل فريق أن أمنه السياسي مرتبط بأمن الفريق الآخر، وليس العكس، فالأمن الوطني لا يتجزأ، وإذا ما اخترق في جانب، فإن المركب سيفرق بالجميع، ولن ينجو أحداً من تداعياته.
إن الرد الوطني الشامل على مخطط الاغتيال وتخريب السلم الأهلي هو الذي يشفي غليل المفجوعين بضحاياهم، وهو الذي يجعل الشهداء ينامون قريري العين، لأن تضحياتهم لم تذهب سداً، بل وظفت في سياق مشروع سياسي انقاذي، وفر لأبنائهم سلاماً وطنياً لم يصلوا اليه في حياتهم.
فهل يرتقى الجميع إلى مستوى تقديم التنازلات الفئوية لمصلحة المشروع الوطني الجامع؟؟
انه التحدي المطروح على الجميع، وعليهم أن يجيبوا بصدق وشفافية، موقفاً وسلوكاً، وإلا لن تجدي البقائية على إطلال هذا البلد الذي دفع كثيراً ولم يجن بما يتناسب وحجم التضحيات التي قدمت.
إن الرد على الاغتيال السياسي لن يكون مجدياً وفعالاً إلا إذا كان سياسياً وضمن قواعد الانتظام الوطني العام.