بقلم أ.عبدالعزيز أمبن عرار
باحث ومشرف تاريخ فلسطيني
مع إطلالة الحرب العالمية الثانية شهدت سوريا نشاط جيل جديد من الشباب العربي الذي كان يتحرك بأمل ويجاهد لصنع مستقبل للأمة العربية وليبني حزبا سماه "حركة البعث" وتطور لاحقا إلى حزب البعث العربي الاشتراكي متسلحا بلفسفة قومية عربية ورومانسية ثورية جسدتها في شعار أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة وفي مبادئ الوحدة والحرية والاشتراكية.شقت دربها بهدوء رصين بعيدة عن حفلات الشوارع وضجيج الانتهازيين مبدية ميلا للاشتراكية ولكن أي اشتراكية أهي الشيوعية أم الاشتراكية الأوروبية أم ماذا. لقد عبر عنها الأستاذ المؤسس ميشيل عفلق بقوله :"انها ليست زيادة في ثروة المعامل بل ثروة الحياة وليس همي أن يتساوى الناس في توزيع الطعام بقدر ما يهمني أن يتاح لكل فرد إطلاق مواهبه وقواه… حتى اليوم نظر الناس إلى الحياة نظرة الكافر الجاحد،لا نظرة المؤمن الواثق".
وأمام جديد وجدية الجيل العربي الجديد ظهرت أفعاله في نصرة العراق عام 1941 في ثورة رشيد عالي الكيلاني وكانت معارك فلسطين التي شهدت إعلان ومؤتمر الحزب في عام 1947 واندفع البعثيون بحماستهم القومية لمحاربة المنظمات الصهيونية و تطوع الرعيل الأول من الشباب البعثي وترك دراسته الجامعية ليساهم في معارك فلسطين ثم يعود ليقام ديكتاتورية حسني الزعيم وأديب الشيشكلي وراح يناضل في الساحات العربية ضد الأحلاف الأجنبية التي قادها نوري السعيد والاتحاد الهاشمي وليصنع وحدة مصر وسوريا مع عبدالناصر ومع أن الحزب مر بمحاولات انشقاقية بدأت أولاها عام 1959 لكن عفلق تغلب عليها في مؤتمرات القيادة القومية طيلة ستة عشر عاما.
وفي 23 شباط عام 1966داست مجموعة من العسكريين السورين وأعضاء القيادة القطرية على القيادة القومية الشرعية للحزب والمتمثلة بالقائد المؤسس ميشيل عفلق وأطاحت بالفريق أمين الحافظ وفر إلى العراق واعتقل ميشيل عفلق وصلاح البيطار وطارق عزيز والشاعر الفلسطيني كمال ناصر الذي سجن لأنه صدح وأغنى وأنشد للبعث،واختفى د.منيف الزاز أمين عام الحزب بعد أن فشلت جهوده في التوفيق بين التكتلات والشلل الحزبية المختلفة.
وتسلم السلطة فريق من العسكريين ومعهم مجموعة دكاترة وشباب وضباط كان أبرزهم نور الدين الأتاسي واللواء صلاح جديد واللواء حافظ الأسد،واللواء مصطفى طلاس.
مر عام وهزم النظام أمام الكيان الصهيوني وقيل الشيئ الكثير في تسليم القنيطرة من قبل وزير الدفاع السوري يومذاك الفريق حافظ الأسد،وكان خطاب "الثوريين" أنه يكفي أن النظام استمر وجوده وأن النكسة الحزيرانية تعوض،ومرت أربعة أيام على تسلم الانقلابيين للسلطة حتى جاءت معارك أيلول 1970 على الفدائيين الفلسطينيين وقد وعد نور الدين الأتاسي رئيس (م.ت.ف) الشهيد ياسر عرفات بمساعدة من سلاح الجو والمدرعات لتحسم المعركة.
ودخلت المدرعات ولكن حافظ الأسد لم يوفر لها غطاءً جوياً.هزم سلاح المدرعات السوري وقضي على غالبيته،ودعي حافظ الأسد إلى اجتماع القيادة للمحاسبة وكانت أغلبية القيادة القطرية والقومية في اجتماعها ولم يناصره سوى شخصين وكانت الأغلبية تدينه في موقفه،ولكنه أعد عدته ليطيح برفاقه "الانقلابيين" بالأمس وليودعهم في 16/11/1970 في سجن المزة بينما نجح بعضهم في الهرب إلى الجزائر والعراق وتسلم السلطة وأعلن عن ثورته "تصحيحية" وهكذا كانت حصيلة التجربة المرة للبعث، كما كتب عنها ذ.منيف الرزاز لاحقا التي مثلت ارتدادا عن مبادئ الحزب ووحدته وأظهرت أن "الطائفيين والأقليميين والمرتدين" قد نجحوا في تسلم قيادة البعث والذين حولوا مثالية عفلق الثورية إلى صراع وتناحر على الكراسي وهذه بعض مسلكيات النظام بعد تسلمه السلطة :
ـ منع عبور الفدائيين الفلسطينيين من الجولان بينما سمح لهم بعبور الأردن إلى فلسطين.وبدأ ذلك في عام 1972.
ـ انحاز وتقرب من الأنظمة العربية الموالية لأمريكا تحت شعار محاربة التطرف الذي سلكه نورالدين الأتاسي واللواء صلاح جديد واستبدله بمقولة سلوك نهج الاعتدال،حيث كان صلاح جديد يدعو لحرب تحرير شعبية عربية مفتوحة مع الكيان الصهيوني وأن تكون سوريا في صدارة النضال القومي العربي.
ـ اتخذ سياسة القبضة الحديدية والقمع البوليسي واتخذ الدواليب وإخفاء المعارضين وجعل المتهمين أرقاما وبهذه الطريقة اختفى آلاف السوريين والفلسطينيين وغيرهم في سجونه.
ـ شكل فئة وطبقة بيروقراطية تنهب مال الشعب وتقود الحزب والدولة ولها أذرع في أقطار عربية وصادر العمل الحزبي السليم واتخذ الستالينية الروسية أسلوبا في الحكم ورسم طريقا يسيطر فيه العلويين على قيادة الحزب والدولة وفي هذا السياق برز من غير العلويين عبدالحليم خدام ومصطفى طلاس.
ـ عمل على اعتقال زعماء وقادة منظمة طلائع حرب التحرير تالشعبية"قوات الصاعقة" الفلسطينية غير الموالين له واستبدلهم بآخرين واعتقل ضافي موسى جمعاني قرابة ثلاثين عاما ولم يخرج إلا بواسطة الملك حسين.
ـ اتخذ سياسة عدائية مع قيادة البعث في العراق ومع قيادة (م.ت.ف) في فلسطين ومن الغرائب أنه حكم على ميشيل عفلق مؤسس الحزب بالإعدام والذي كان يرأس القيادة القومية ومقرها بغداد.
ولم يقدر النظام الأسدي دور الجيش العراقي في حرب اكتوبر عام 1973 الذي حمى دمشق من السقوط في يد الصهاينة،حيث قطع عنه الماء والكهرباء ليجبره على الانسحاب،وكي تبقى المعركة في إطار "الحرب التحريكية لا التحريرية" وعندما وقعت حرب الثماني سنوات(1980ـ 1988) اختار أن يقف في صف النظام الأيراني مما يعني تغليبه الطائفية العلوية الشيعية على القومية البعثية.
ـ اتخذ فلسطين وقضيتها شعارا زائفا واتبع أسلوب التفكيك والتفرقة بين فصائل منظمة التحرير الفلسطينية وعَمق تناحراتها وانشقاقاتها وظلت لبنان منذ عام 1976 حتى انسحابه منها ساحة للعب بين الأطراف المختلفة،بينما لم تقاوم القوات السورية الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 وسقطت دباباتها عند أول عملياتها ولم يفلح نصب صواريخ سام 6 التي ذهبت أدراج الرياح.
وبدلا من أن يتبع موقف الحزب القائل: (أن فلسطين قضية قومية مركزية للعرب)أو أن (وحدة العرب تعيد لفلسطين حريتها وكرامتها مثلما يساهم تحرير فلسطين في وحدة العرب) أخذ يشن حربه على الفلسطينيين وقضيتهم منذ أن تدخل لصالح الفريق اللبناني الماروني المتحالف مع الصهاينة وأخذ تارة يضرب ذاك ويعادي ذاك وعمق الصراع الطائفي في لبنان وقد بات مخيم تل الزعتر شاهدا للذكرى والتاريخ على جرائمه بحق الفلسطينيين،ومع أنه وضع في صدر قصره صورة للبطل صلاح الدين محرر القدس إلا أنها صورة بلا مضمون أمام الممارسات التي تعادي شعب وقيادة فلسطين،وطرح شعار التوازن الاستراتيجي أمام اعتداءات إسرائيل المتكررة على سوريا وفلسطين وباقي الأرض العربية، ولا ننسى أن كثيرين اتخذوا صلاح الدين كشعار للتحرير أو وصفوا به ولكن معركة حطين لم تأت إلا من سلطان وجيل يمتلك إرادة وشجاعة وجاهد حق جهاده،ويذكرنا هذا بفخري عبدالهادي الذي انتقل من بطل الثورة إلى رئيس كتيبة حطين التي عملت في إجهاض الثورة الفلسطينية الكبرى والانقلاب عليها عام 1937.
وفي سياق معاداة القضية العربية وقف مناصرا للعدوان الثلاثيني على العراق عام 1991 ومع أن القيادة العراقية حاولت التقرب من النظام السوري لفك الحصار عنه كان النظام السوري يبتعد في إجراءاته ويعمق حلفه مع جمهورية إيران ضمن خط جديد سموه بالممانعة والذي أفلح فيه حزب الله بضرب مواقع إسرائيلية ولكن حربه كانت ولا زالت محسوبة ضمن الحسابات الإقليمية المصلحية لأيران ولا تنظلق من نظرة جهادية لتحرير فلسطين.
بشار على خطى أبيه:
وجاء الابن وقد ظن البعض أن الابن سيخالف نهج أبيه وقد نسي هؤلاء أن الولد سر أبيه وأن الحرس القديم لم يتغير وهكذا استمر الأب في خطى أبيه ولم يكن من فرق سوى أن الأول زارع والثاني حاصد.
استمر في عداءه للقيادة العراقية إذ أبدى ترحيبه بسقوطها في عام 2003 وهو يمهر تعميمه على البعثيين الموالين خارج سوريا بأن النظام ديكتاتوري انتهى وأن العراق سيكون أفضل بلا صدام حسين،وعندما التجأ عدد من المطلوبين للاحتلال الأمريكي قام النظام السوري بتسليمهم إلى حكومة بغداد ومنهم سبعاوي ووضبان ومع أنه أغمض أحيانا عينيه عن دخول آلاف العراقيين البعثيين الفارين من حكومة الاحتلال الأمريكي إلى العراق إلا أنه أخضعهم لقيود مشددة ثم حاول خلق بدائل هزيلة للقائد المجاهد ابراهيم.
وعندما نتحدث عند ديمقراطية الأب والأبن ومعنى الحرية وهامشها نجد أن النظام صنع "الجبهة الوطنية التقدمية" التي يحتل فيها حزب النظام دور القائد والرئيس وليس لها من دور سوى في الاستعراضات الشكلية،وإلى جانب هذا تحتل البيروقراطية موقعها ورجال النظام ورئيسه يثرون على حساب الشعب المصادرة حقوقه وحرياته في الكلمة والتجمع والانتخاب والتعددية ومما زاد الطين بله اختيار الابن وريثا للأب في مسرحية شرقية متخلفة تتناقض مع روح الحداثة والتطور المنشود، فأعدمت الحرية والديمقراطية أحد شعارات الحزب الرئيسة وحولت النظام الجمهوري إلى ملكي.
إن حصيلة التجربة المرة في سوريا والتي جسدها الانقلابيون على سلطة البعث الشرعية عام 1966 وكما وصفها المرحوم منيف الرزاز أنها نقلت الحزب ورجاله من مستوى الصدق والمثالية والانتماء وحب القومية والتضحية في سبيل الوحدة والحرية والعدالة الاجتماعية إلى ممارسة التكتلات والشللية والطائفية ذات الحقد المذهبي والتي طاردت الشعب وصادرت حقوقه وحرياته وداست كرامته تارة بالاغتيال وتارة بمذابح حماة وأخرى شاهدناها في أيامنا هذه ويشاهدها المراقب بالصوت والصورة في الأعلام المرئي ورغم أننا ندرك أن بعض أطراف الثوار تتغذى وتتقوى من تركيا صديقة إسرائيل ومن أنظمة خليجية عميلة للأمريكان،وقد شككنا أول مرة وقلنا هذا عمل الإمبريالية وأذنابها إلا أن سلسلة الممارسات التي جرت وتجري اليوم تؤكد على أن سلطة (آل الأسد) التي لعبت بحزب البعث وأهدافه وحطمت رجاله وتخاذلت في مواجهة الكيان الصهيوني واستنفذت جميع أشكال القوة تجاه المعارضة السورية بات مصيرها على كف عفريت وستنتهي في زمن قريب ولا شك أن هذا نتاج طبيعي للتجربة المرة التي أنتجها العسكريون على حساب المدنيين، ونقول في هذا السياق: حينما يخون الحزبيون أفكارهم ونظرياتهم يسجلون انتحارهم وهلاكهم.
*أعد الباحث رسالة ماجستير: بعنوان: حزب البعث في فلسطين ودوره في الحركة الوطنية الفلسطينية 1948ـ 1982
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.