عيسى سيار
أكدت تقارير ديوان الرقابة المالية والإدارية العتيدة وعلى مدار السنوات الثماني الماضية، أن حجم الفساد في مملكة البحرين بلغ مبلغه إلى الحد الذي بات فيه سافراً بحيث أصبح لا يزكم الأنوف فحسب بل يصيبك بالغثيان أو ربما بالسكتة والعياذ بالله! فقد ارتكب مسئولون المخالفات والتجاوزات الإدارية والمالية جهاراً نهاراً، أي عيني عينك، من خلال هدر المال العام أو الاستيلاء عليه من غير وجه حق أو توظيف أو ترقية من لا يستحق أو توظيف الشخص غير المناسب أو «تطفيش» أو إزاحة المسئولين والموظفين الشرفاء الذين قاوموا الفساد ومغرياته، لأنهم قرّروا الانتصار لوطنهم ومبادئهم.
كل ذلك يتم وبعد مرور عقد من الزمان على المشروع الإصلاحي، وفي ظل برلمان طُعن في رجولته ووزراء فوق المحاسبة التشريعية والقانونية، ومع عدم تحريك دعوى قضائية من الجهات المختصة ضد أي مسئول، على رغم الصيد الدسم الذي يقدّمه سنويّاً ديوان الرقابة المالية على طبق من الألماس!
وهذه الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة؛ لم تنشرها تقارير منظمات الأمم المتحدة المنحازة إلى المعارضة! ولا دول معادية للبحرين تضمر لها الشر! وإنما ديوان الرقابة المستقل التابع إلى الجهات الرسمية، وكنا نتمنى من ديوان الرقابة أن يبرز في تقاريره مسائل مهمة؛ مثل: حجم الفاقد من المال العام المهدر على تنفيذ مشاريع البنية التحتية والمعيشية والحيوية من حيث الكم والنوع، وبالتالي على حياة المواطن وتأثير حجم الفاقد (المهدر) على النمو الاقتصادي السنوي وانعكاسات حجم الفاقد على الاقتصاد الوطني.
إذن إذا كان لدينا فساد بهذا الحجم؛ بحسب ما أظهرته تقارير ديوان الرقابة العتيدة وتقارير لجان التحقيق البرلمانية كثيرة العدد قليلة الفائدة؛ فأين الفاسدون؟ هل هم يعيشون على كوكب آخر؟ بالله عليكم أفيدونا يا أولي الألباب؟.
وحتى تاريخه وكما يعلم الجميع؛ فإنه لم يتم تحريك أية دعوى قضائية واحدة ضد أي مسئول ارتكب مخالفات مالية أو إدارية، وهذا أمر غريب ومريب ونحن نعيش في دولة القانون والمؤسسات. والمواطن يتساءل بحرقة وفي فمه ماء: أين الدستور والقوانين والجهات الرسمية من هذا الفساد الذي أهلك البلاد والعباد، ولسان حاله يقول الشكوى في هذا البلد لغير الله مذلة؟ وقبل الإجابة على هذا السؤال المشروع الذي يتصدر ألسنة المواطنين ويتداولونه يوميّاً بشكل عام وبعد صدور تقرير الديوان بشكل خاص؛ نود أن نستعرض بعض حالات الفساد الإداري والمالي؛ بعضها قضايا رأي عام، والآخر وصلتني من مواطنين تضرّروا من هذا الفساد العام.
أولاً – إحدى المواطنات كانت تعمل رئيسة قسم الشئون المالية في وزارة خدمية، وهي من الكفاءات المشهود لها علماً وخبرةً في المجال المالي والقانوني، حُوّل إليها موظفٌ من وزارة خدمية أخرى وقامت هذه المواطنة بتدريبه، وبعد أن انتهت من تدريبه قامت بتحديد مهامه في القيام بحسابات المشاريع، إلا أنه رفض القيام بها واكتفى بالقيام بالحسابات البسيطة. هذا الموظف صرف عليه لتدريبه ما يقارب 27 ألف دينار ولم يفلح في دراسته، وعندما رفعت تقارير عن أدائه السلبي وإهماله في العمل وجاهرت بشكواها، قيل لها ان هذا الموظف تربطه علاقة رضاعة مع عائلة المدير! ولما استمرت في الشكوى من أدائه شكلت لجنة تحقيق داخلية للتحقيق معها لم يكن ديوان الخدمة المدنية ممثلاً فيها، وتمت محاصرتها و»تطفيشها» وتهميشها إلا أنها قدمت استقالتها من الوزارة والتحقت بوزارة أخرى. ولم يكتفِ مسئولو الوزارة التي كانت تعمل فيها بذلك؛ بل أرسلوا كتاباً إلى الوزارة التي بدأت العمل فيها مصدقاً من ديوان الخدمة المدنية على أن هذه الموظفة صدرت بحقها عقوبة إيقاف عن العمل لمدة عشرة وخصم من الراتب تم التوقيع عليها من قبل الوكيل في شهر أغسطس/آب 2011، وقمة الفساد الإداري هنا: إن هذا الوكيل صدّق على كتاب الإيقاف قبل صدور قرار تعيينه في منصبه في أكتوبر/ تشرين الأول 2011! ونترك الأمر لأولي الأمر.
ثانياً – إحدى السكرتيرات لأحد المديرين في إحدى الوزارات الخدمية؛ انتقلت مع مديرها إلى وزارة خدمية، وبقدرة قادرٍ تم تعيينها رئيسة قسم على رغم اعتراض ديوان الخدمة المدنية على تعيينها بسبب عدم حصولها على المؤهل الجامعي (تحمل الشهادة الثانوية فقط) الذي يؤهلها لكي ترأس القسم، إلا أن ديوان الخدمة المدنية تراجع عن اعتراضه وبلع لسانه بسبب ضغوط مسئولي الوزارة.
ثالثاً – قضية فساد ألبا – الكوا التي تورّط فيها مسئولون كبار، رفعت فيها قضيتان، واحدة في القضاء الأميركي والأخرى في القضاء البريطاني، وقد طالعتنا الصحف المحلية مؤخراً بأن شركة الكوا وافقت على تسوية الأمر مع حكومة البحرين من خلال دفع تعويض قدره 82 مليون دولار أميركي، ويقال إن حجم الرشا والفساد في هذه القضية يصل إلى مليار دولار أميركي، وعلى رغم كل هذا؛ فإن حكومة البحرين فضلت الصمت على قاعدة «إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب». وحتى تاريخه لم تتم إحالة أي مسئول بحريني إلى القضاء، وكأن لسان حال الحكومة يقول: أجل لدينا فساد لكن ليس لدينا مسئولون فاسدون.
رابعاً – قضية فساد مستشفى الملك حمد الجامعي حيث كانت كلفة المشروع حوالي 18 مليون دينار بحريني، ووصلت بقدرة قادر إلى 120 مليون دينار، والتي على خلفيتها تم إعفاء وزير الأشغال السابق من منصبه في إجراء لايزال يلفه الغموض. وكالعادة تناولت الصحف القضية كل بحسب مصالحه، وثارت حمية نواب الزوابع وشكلوا لجنتهم العتيدة، وذهبت فزعتهم وتقرير لجنتهم – وكالعادة – أدراج الرياح، حالها حال لجنة حصر الأراضي وطيرن الخليج…الخ، ولكن ما مصير هذه القضية؟ ومن المتورط فيها؟ وأين نتائج تقرير اللجنة البرلمانية في هذه القضية؟ ولماذا لم تحرك دعاوى قضائية حتى الآن؟ كل ذلك نتركه لأولي الأمر.
خامساً – الاستيلاء على أكثر من ستين كيلومتراً مربعاً من مخزون الأراضي من غير وجه حق، وهذا الفعل يتساوى في درجة الجرم مع الاستيلاء على المال العام، فأراضي الدولة هي ملكٌ للشعب البحريني، وتوزيع أكثر من ستين كيلومتراً مربعاً على عددٍ من المتنفذين بعدد أصابع اليد؛ أمرٌ خطيرٌ جدّاً، ويتناقض تماماً مع أبسط مبادئ الإصلاح. والتساؤل المشروع: كيف تم توزيع تلك المساحة الكبيرة جدّاً من الأراضي والتي تقدّر بمليارات الدنانير في ظل دولة القانون والمؤسسات؟ وما هو مصير تلك الأراضي بعد أن شكلت الحكومة لجنة وزارية رفيعة المستوى للتحقيق في هذا الاستيلاء الجائر والفاضح على الأراضي العامة؟ وهل أصبح هذا الملف نسياً منسيّاً، حاله حال ملفات الفساد الأخرى؟ نترك الأمر لأولي الأمر.
إن ما ذكرناه من قضايا فساد هو غيض من فيض، فقد نحتاج إلى مجلدات لكي تسع قضايا الفساد في البحرين، ويكفي القول إن البحرين تسجل سنوياً التراجع تلو التراجع على مقياس منظمة الشفافية العالمية، والذي يتكون من عشر نقاط بالنسبة إلى الدول الأقل فساداً والدول الأكثر فساداً، وتحتل البحرين مرتبة أقل من المنتصف. لقد وقّعت البحرين على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد العام 2010 وأنشأت إدارة لمكافحة الفساد بوزارة الداخلية، وهذا أمر محمود، لكننا لانزال نسمع فقط جعجعة مكنة الطحان بالنسبة إلى جهود مكافحة الفساد ولا نرى طحيناً… فمن يرفع الشراع؟