د/ يوسف مكي (كاتب سعودي)
أنهى الحزبان الرئيسان في الولايات المتحدة مؤتمريهما العامين، حيث عقد الحزب الجمهوري مؤتمره العام في تامبا، بولاية فلوريدا، وسُمّي الحاكم السابق لولاية ماساتشوسيتس، ميت رومني مرشحاً للحزب، في التنافس على كرسي الرئاسة بالدورة المقبلة. كما عقد الحزب الديمقراطي مؤتمره العام في شارلوت وأعاد تسمية الرئيس باراك أوباما مرشحاً عن الحزب في الانتخابات المقبلة. وبذلك دخلت الحملة الانتخابات الأميركية مرحلة جديدة. ويتوقع المراقبون أن تكون هذه الحملة قاسية ومريرة بسبب الفارق الضيق في الأصوات المؤيدة لكليهما، وفقاً لآخر الاستطلاعات، وأيضاً نتيجة للأزمة الاقتصادية التي تشهدها البلاد. سنكرِّس حديثنا هذا وأحاديث أخرى تالية، لمتابعة حملة التنافس بين أوباما ورومني بالقراءة والتحليل، وتقديم رؤية استشرافية عمن هو الأكثر حظاً بينهما في الفوز بالموقع الرئاسي للأربع سنوات المقبلة التي تبدأ من فبراير/شباط 2013.
وابتداءً، فإن التنافس على الرئاسة بالولايات المتحدة، كما جرت العادة، وباستثناءات نادرة، ينتهي بمنافسين، ينتمي أحدهما إلى الحزب الديمقراطي، في حالتنا هذه هو الرئيس أوباما، والآخر جمهوري هو ميت رومني. بمعنى أن الصراع في حقيقته يجري بين الحزبين، ودور المتنافسين هو تطبيق برنامج أحدهما بعد الفوز. والحزبان يحملان أيديولوجيا سياسية وانتماءً اجتماعياً، وينتمي المرشح غالباً إلى الطبقة التي يمثلها الحزب. فالرئيس أوباما يحمل عقيدة الطبقة الوسطى التي هي عقيدة الحزب الديمقراطي، وهو في الوقت ذاته ينتمي اجتماعياً إلى هذه الطبقة. ورومني يحمل عقيدة الطبقة الرأسمالية التي يعبر عنها أيديولوجياً الحزب الجمهوري. وهو رجل أعمال، ومعروف بثرائه الفاحش، حقق نجاحات باهرة في القطاع الخاص. وتولى منصب حاكم ولاية ماساتشوسيتس في الفترة 2003- 2007. وحاول الوصول إلى البيت الأبيض بالدورة السابقة، لكنه فشل في مواجهة رفيقه الجمهوري جون ماكين الذي رُشح عن الحزب الجمهوري للتنافس مع باراك أوباما الذي تمكن من إلحاق الهزيمة به والفوز بمقعد الرئاسة. هذا التمييز بين عقيدة الحزبين، يستدعي أموراً أخرى، في مقدمتها صفة الاستمرارية، والثبات الذي يصل إلى حافة السكون، والتجانس لدى المنتمين إلى الحزب الجمهوري. أما في الحزب الديمقراطي فنحن أمام لوحة فسيفسائية، عابرة للأجناس والأديان والطبقات والأيديولوجيات السياسية، حيث يلتئم المنتمون إلى الطبقة المتوسطة: تجار ومثقفون وموظفون وكسبة، وفنانون وإعلاميون وأقليات قومية حول هذا الحزب. الذين أتيح لهم مشاهدة انعقاد مؤتمر الحزب الديمقراطي العام يعرفون أنه أكثر لمعاناً وبهجة وحيوية من المؤتمرات العامة التي يعقدها الجمهوريون، وتنعكس حيوية الحزب، في أحد جوانبها، على أعمار المرشحين للرئاسة بين الحزبين. فخلال الخمسة عقود الماضية، وصل إلى سدة الرئاسة في مطلع الستينيات من القرن الماضي أصغر رئيس في التاريخ الأميركي هو جون كنيدي. وفي التسعينيات وصل شاب آخر هو بيل كلينتون إلى البيت الأبيض، واستمر في سدة الرئاسة دورتين. وفي المقابل وصل شيوخ وعجزة إلى البيت الأبيض، ينتمون إلى الحزب الجمهوري، من ضمنهم دوايت أيزنهاور، ورونالد ريغان، وجورج بوش الأب. وإذا ما طبقنا هذه المقاربة على الحاضر، فإن الرئيس الحالي، أوباما يبلغ من العمر 51 عاماً الآن، وحين تسلم سدة الرئاسة لم يتجاوز عمره 47 عاماً، نافسه خلالها جون ماكين الذي يكبره بعدة عقود، والمنافس الجمهوري الحالي، رومني يبلغ من العمر 65 عاماً.
هذه المقدمة تقودنا إلى النقطة الجوهرية الثانية في هذه القراءة، هي البرامج التي يتعهد كل مرشح بتطبيقها في حال فوزه بمقعد الرئاسة. وقد تناولنا هذه البرامج عند قراءتنا التحليلية للانتخابات الأميركية السابقة. وقراءة هذه البرامج ليست عملية اعتباطية، لأنها هي التي تتيح لنا تقديم تحليل استشرافي، عمن نرجح فوزه بمقعد الرئاسة في الانتخابات التي ستجري في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
وطبيعي أن تنبثق هذه البرامج من طبيعة هيكلية وعقيدة الحزبين، فمطلب الطبقة العليا، هو تخفيض الضرائب، ورفع سيطرة الدولة عن الاقتصاد. ومعنى ذلك تقلص دخل الدولة، بما يقتضي تخفيض الخدمات التي تقدمها الدولة، والنيل من المكتسبات التي تتحقق اجتماعياً أثناء هيمنة الديمقراطيين. ويستتبع ذلك تخفيض أعداد موظفي الدولة، وأحياناً يصل الأمر إلى تقليص أعداد أفراد الشرطة، بما يسهم في رفع مستوى الجريمة، وتحقيق الكساد، وزيادة أعداد العاطلين، وبقاء نسبة كبيرة منهم دون مأوى. على النقيض من ذلك، يعمل المرشح الديمقراطي، على رفع مستوى الضرائب بشكل تصاعدي، وتضخيم الأجهزة البيروقراطية، لمقابلة استحقاقات الناس. وتتحقق في ظل هيمنة الحزب الديمقراطي، دولة الرفاه، وتتحسن الخدمات الصحية والتعليمية. وتسود حالة من الانتعاش الاقتصادي.
وما دام الحال، هو كما شخصناه، فلماذا يقبل الأميركيون عموماً أحياناً ببرنامج الحزب الديمقراطي، حيث الانتعاش، وأحياناً ببرنامج الحزب الجمهوري حيث الانكماش الاقتصادي؟
والجواب هنا يرتبط بمعادلة دقيقة تؤدي بنتيجتها إلى وصول أحد المرشحين سدة الحكم. فالانتعاش الاقتصادي من شأنه أن يرفع نسبة التضخم، بشكل تصاعدي، حيث ترتفع أسعار البضائع والخدمات والمساكن، بشكل لا يكون بمستطاع محدودي الدخل التعامل معه.
وهنا تنتقل الدورة الاقتصادية من حالة التضخم، إلى حالة أخرى، بين التضخم والانكماش في المراحل الأولى لوصول الحزب الجمهوري. لكن استمرار ذلك هو رهن بالمستوى الذي بلغه التضخم في أثناء هيمنة الديمقراطيين. فإذا كانت حالة التضخم عالية جداً، فإن معالجتها قد تتطلب أكثر من دورة انتخابية يفوز بها الجمهوريون، وإذا كانت ضئيلة فإن دورة واحدة تكفي لمعالجة الأزمة، لينتقل الحال بعدها إلى سيادة حالة من الانكماش ربما تتسبّب في انهيار اقتصادي كالذي حدث إثر أزمة الرهن العقاري في نهاية عهد الرئيس الأميركي جورج بوش الابن. وهكذا تستمر الدورات الاقتصادية، ووصول الرؤساء إلى سدة الحكم بشكل متعاقب. بعد هذه القراءة، يواجهنا السؤال الرئيس: من هو الرئيس الذي سيكون أكثر حظوة في الفوز بمقعد الرئيس في انتخابات نوفمبر المقبل؟ ذلك ما ستكون لنا وقفة معه في أحاديث أخرى بإذن الله.