محمود القصاب
إن منطق الأزمات في كل الظروف والأوقات وكما تنقله تجارب الدول، وما تزخر به بطون الكتب حول المجتمعات التي مرت بمثل هذه الأزمات يقول: إن الحوار بين الفرقاء المتصارعين يكون ضرورياً في أوج اشتداد تلك الأزمات وتصاعد الاحتقان السياسي والاجتماعي. ويكون الحوار أكثر ضرورة عندما يتجاوز الصراع حدود الوضع الطبيعي في التنافس ويهبط إلى مستويات متدنية من السباب والتراشق اللذين يفاقمان التوتر القائم ويهدد المجتمع بالانزلاق نحو الفوضى، وإلا ما هي إذاً قيمة الحوار؟… ولماذا يعقد أصلاً طالما لا يوجد مبرر له، بمعنى لا يوجد أية خلافات تستدعي مثل هذا الحوار؟
حول هذا الموضوع كتبنا وكتب غيرنا مرات عديدة، وتم تناوله من زوايا مختلفة، ووجهات نظر مفصلة، وقلنا إننا دائماً مع الحوار من حيث المبدأ لأنه أفضل من القطيعة ومن الجمود السياسي القائم.
نسوق هذه المقدمة بمناسبة ما يجري الحديث عنه حول عزم الدولة الدخول في «مفاوضات» جديدة مع القوى السياسية، وتنشط وسائل الإعلام على اختلافها في نقل التقارير، ورسم السيناريوهات المحتملة حول هذه المسألة. وما عزّز من زخم تصدر هذا الموضوع الواجهات الإعلامية، تصريحات بعض المسئولين، وكذلك البيانات الصادرة من وزارة العدل على خلفية اللقاءات التي عقدها وزير العدل مع الجمعيات السياسية وجاء فيها: «إن هدف هذه اللقاءات دفع التفاهمات بين الجميع في المجال السياسي وتهيئة الأجواء الداعمة لتطوير وتقدم العمل السياسي، وفي سياق آخر من البيانات نفسها طالبت الوزارة من الجميع بتحمل المسئولية الوطنية والشرعية في نبذ العنف وعدم تقديم أي غطاء سياسي له».
هذه بعض النصوص الواردة في بيانات وزارة العدل، وهي كما نلاحظ فيها الكثير من العبارات التي تتصف بالعمومية والغموض، وفي تقديرنا إن الصياغة بهذا الشكل لم تأتِ بصورة عفوية، إنما قصد من ورائها توجيه عدة رسائل للداخل والخارج، تحمل أكثر من وجه، بمعنى أن كل طرف أو متلقي لهذه الرسائل يمكنه قراءة أو تفسير بيانات الوزارة من زاوية مختلفة لكنها ليست بالضرورة تمثل الحقيقة.
ولكن ما هو مهم وملفت للنظر أن كل تلك التصريحات لم تتطرق إلى «مسألة الحوار» بشكل قاطع وصريح، ما يعني أن الوزارة لا تريد على الأقل في هذه المرحلة أن ترتب على نفسها وعلى الدولة أية التزامات في هذه القضية الحساسة والمليئة بالألغام السياسية، وخصوصاً أن الوزارة تعرف طبيعة التجاذبات والشخصيات التي تتصارع حولها، كما تدرك حجم المزايدات التي تطلقها بعض القوى المحسوبة على الجانب الرسمي بالنسبة إلى هذه القضية، التي لا يمكن لأحد أن يجزم بجديتها، بالإضافة إلى عدم التكهن بالمدى الذي ستذهب إليه، وما هو السقف الذي ستتوقف عنده، ومستوى أو جدوى النتائج التي ستتمخض عن أي حوار جديد، ناهيك عن احتمالات التراجع أو الارتداد المفاجئ كما حصل أكثر من مرة بعد أن ينفض السامر كما يقال.
لذلك فإن ما نسمعه خلف الأبواب المغلقة حول وجود نوايا لإطلاق جولة جديدة من الحوار يجب عدم التعويل عليه كثيراً، وخصوصاً أن التجربة المريرة التي مررنا بها قد علمتنا أن العلاقة بين السياسة والنوايا الحسنة في بلدنا تحوم حولها الكثير من الشكوك، وإذا كانت الضبابية التي تنعدم معها الرؤية الواضحة حاضرة، والشفافية غائبة، فإن ذلك يفسح المجال أمام كثرة الشائعات وتكاثر الظنون حول النوايا والأهداف وحول التوقيت أيضاً.
والشيء المؤكد أن اللقاءات والمناقشات التي دارت بين وزير العدل وقادة الجمعيات قد تطرقت إلى موضوع الحوار، ولكن ليس كمحور رئيسي أو أساسي على جدول تلك اللقاءات، كما لم يجرِ التحدث حول أية أفكار جديدة أو مشاريع محددة تشير إلى أن الدولة تعد العدة فعلاً إلى جولة جديدة من المحادثات حول هذا الموضوع، بل إن بعض الجمعيات قد داخلها شعورٌ يقارب الحقيقة، بأن الوزارة أرادت تحت هذا العنوان الجاذب (الحوار القادم) بأن تنقل بعض المطالب والشروط للجمعيات السياسية المعارضة، تاركةً الباب موارباً لكل التفسيرات من خلال الصياغات المبهمة التي نوّهنا إليها قبل قليل، الأمر الذي ولد قناعةً لدى الجمعيات بأن الدولة مازالت ترى بأن الظروف غير ملائمة لإجراء أي حوار جديد بحجة أن الأطراف السياسية في حالة مواجهة وصراع محتدم، وأن الثقة بينها منعدمة، مع تأكيدها على أهمية استمرار اللقاءات في المستقبل.
وأحسب أن هذا هو الانطباع العام الذي يمكن أن يخرج به أي متابع لكل اللقاءات التي جرى الإعلان عنها بين الجمعيات السياسية المعارضة وبين المسئولين في الدولة على مختلف مستوياتهم في هذه الأيام، وإعادة تكرار ذات العموميات (حول مشاركة الجميع والتوافق وأهمية دور المؤسسات الدستورية) دون الإشارة إلى قضية الحوار بشكل محدد.
والغريب في الأمر أن الدولة تتحدث عن «أطراف الصراع» وهي تعني بها القوى السياسية والمجتمعية الموالية والمعارضة، وكأنها (أي الدولة) تريد أن تقول بأنها ليست طرفاً معنياً بهذا الصراع والوضع المتوتر سياسياً واجتماعياً، وأن دورها ينحصر فقط في محاولة تقريب وجهات النظر المتباعدة بين هذه الأطراف من خلال «دفع التفاهات بين الجميع»، ورأب الصدع بين مكونات المجتمع و»تهيئة الأجواء الداعمة لتطوير العمل السياسي».
بالطبع لا يمكن ابتلاع وهضم هذه «المناورة» التي يراد بها تصوير كل ما جرى ولايزال منذ تفجر الأزمة في 14 فبراير من العام الماضي، وأن كل ما شهدته من أحداث جسيمة وما خلفته من ذيول، لا يخرج عن كونه صراعاً أو خلافاً بين مكونات المجتمع، محصوراً في بعده الطائفي فقط، أي أن الأزمة التي عصفت بالبلاد والعباد هي أزمة «طائفية»، لأن هناك فقط فئة حاولت القيام بعملية انقلاب لدوافع طائفية «مدفوعة من الخارج»، وهذه الرواية تبلغ قمة التجني على مطالب الناس العادلة والمشروعة في الإصلاح السياسي والديمقراطي وتحقيق المواطنة الحقة التي تقوم على الحرية والعدالة والمساواة والكرامة لجميع أبناء الوطن دون استثناء، وهي المطالب ذاتها التي مازالت مطروحة في كل مسيرات الحراك الشعبي، ويتم التأكيد عليها في كل المناسبات، وهى لا تختلف عن مطالب كل الشعوب الساعية للتطور السياسي.
نحن هنا نورد هذه الحقيقة دون أن نتجاهل أو نتغافل عن بعض الأخطاء الفادحة التي حصلت، والتي مكنت الدولة وإعلامها من «حبكة» رواية الانقلاب التي جيّشت بها الداخل وأوهمت الخارج. ومن المؤسف أنه لايزال هناك من يردد هذه المزاعم، ويعيد اجترار الأوهام ذاتها حول عملية الانقلاب المزعومة، التي هدفها الأساسي تشويه وضرب الحراك الشعبي السلمي المستمر.
وهذا الأمر يفسر أو يعكس طريقة تعامل الدولة مع الأزمة منذ بداية تفجرها حتى الآن، والتي أوصلت البلاد إلى مرحلة من الانسداد السياسي واستعصاء الحلول السياسية التوافقية بسبب الإصرار على المعالجات الأمنية، والمضي في القرارات والإجراءات المسئولة عن تفاقم حالة التعبئة والتحشيد الطائفي والتلاعب بالحساسيات المذهبية واستنفارها، وبروز بعض القوى من رحم الأزمة تتحمل مسئولية الخراب الذي حلّ بالبلد عبر شحن النفوس وإيغار الصدور وتمزيق وحدة الشعب، لأن هذه القوى في الحقيقة تتمتع بقدرة هائلة على المزاوجة بين الصلافة السياسية وبين الكراهية والأحقاد الطائفية بصورة قلّ نظيرها، ما حوّل البحرين إلى بيئة خصبة لما نشهده من صراعات طائفية ومذهبية غير معهودة بين أبناء البلد الذين اعتادوا على التعايش والتراحم رغم الاختلافات المذهبية والفقهية المعروفة.
في ظل هذه الصورة القاتمة نحن إذاً بحاجة إلى خلق شعور بالاطمئنان لدى الجميع، وعلى كل المستويات، وفي كل الاتجاهات، بأن الدولة تقف اليوم على مسافة واحدة من جميع الأطراف، وأنها هي المظلة التي تحتضن الجميع دون محاباة أو انحياز لطرف على حساب طرف آخر. وإن أكبر الأخطاء والخطايا التي يمكن أن يرتكبها أي نظام سياسي هي محاولة اللعب على تناقضات واختلافات شعبه، لذلك نحن ندعو إلى إعادة صياغة سلوك الدولة في كل ما حصل من أحداث، وإن أولى الخطوات المطلوبة في هذا الاتجاه إعادة جوهر المشكلة إلى الصدارة كونها مشكلة سياسية وليست طائفية.
كما يجب التفكير والتصرف في إطار الواقعية التي فرضتها التحولات والمتغيرات في المنطقة (ثورات الربيع العربي)، هذا إذا ما أرادت الدولة حقاً فتح آفاق جديدة لحوار جاد ومصالحة حقيقية يخرجان البلد من أزمته ويحميانه من المخاطر التي تتهدده داخلياً وخارجياً.
لقد كان تشكيل لجنة تقصي الحقائق وصدور التقرير بتوصياته المعروفة، قد أوجد أرضية مناسبة لاختراق جدار الأزمة وخلق انعطافة إيجابية في مسيرة الحل السياسي التوافقي، وكان يمكن البناء على تلك التوصيات لأنها حدّدت نتائج الأزمة وشخصت أسبابها، ورسمت طريق معالجتها، واقترحت سبل مداواة الجروح الغائرة التي خلفتها. إلا أن التلكؤ ومحاولة الالتفاف على تنفيذ بعض أهم تلك التوصيات قد أعادنا إلى المربع الأول، وإعادة خلط الأوراق من جديد، وعاد منطق العنف والعنف المضاد يفرض نفسه، وعاد التصعيد الأمني كخيار أوحد للدولة وليدخلنا في جدلية أولوية «الدجاجة» أم «البيضة»، بينما البلد يغرق في بحر لا قرار له من الانقسام والفرقة.
وهنا لا أحد يجادل في توزيع تحمل المسئولية لانتشال البلد قبل فوات الأوان، بين الدولة في المقام الأول وبين القوى السياسية والمجتمعية، وهذه قضية سنحاول التطرق إليها بشيء من التفصيل في مقالة قادمة إن شاء الله.