علي جرادات
عدا أن بن غوريون هو من قاد الفريق الصهيوني المؤسس لسياسة التطهير العرقي في فلسطين، ولإقامة “جيش له دولة”، “حدودها حيث تصل أقدام جنودها”، ويربطها تحالف استراتيجي ثابت بمخططات دول الاستعمار الغربي تجاه الوطن العربي وتقسيمه والسيطرة عليه، فقد كان، (بن غوريون)، هو أيضاً، العقل المؤسس لأهم استراتيجيات نظرية الحرب والأمن “الإسرائيلية”، بدءاً باستراتيجية شن الحروب الاستباقية الخاطفة، مروراً باستراتيجية “نقل الحرب إلى أرض العدو”، تعريجاً على استراتيجية إقامة علاقات تعاون سياسي وعسكري وأمني مع دول الغلاف الإقليمي الآسيوي والإفريقي للوطن العربي، وصولاً إلى استراتيجية العبث الدائم بنسيج مجتمعات الأقطار العربية، ونشر الفتن بين مكوناتها بهدف زعزعة أمن واستقرار أنظمتها السياسية، والمساهمة والحث على تدمير الأقوى والأكثر رسوخاً وثقلاً من دولها .
هنا، لئن شكلت الطبيعة الفكرية السياسية الصهيونية التوسعية العدوانية، بل الفاشية، الواعية لمقتضيات محدودية العمق الاستراتيجي للكيان الصهيوني الذي، (بكلمات بن غوريون نفسه)، “لا يتحمّل هزيمة عسكرية ماحقة واحدة”، هي منطلق مؤسسي هذا الكيان إلى صياغة نظريتهم للحرب والأمن على الأسس أعلاه، فإن التزام من جاء بعدهم حتى الآن بهذه الأسس، (مع تعديلات وإضافات أملتها تطورات الصراع ودروس مستجداته)، إنما يبرهن بما لا يدع مجالاً للشك على أن النظام السياسي للكيان الصهيوني، وبغض النظر عن تبدل اللون الحزبي للسلطة فيه، لا يرفض التسوية السياسية للقضية الفلسطينية فحسب، بل يرفض أيضاً الكفّ عن القيام بوظيفة الحارس الشريك في السيطرة الغربية على الوطن العربي، ونهب ثرواته وكبح تقدمه وضرب أنظمته الرسمية والشعبية الجادة، والعمل الدائم على تفكيك دوله والحيلولة دون قيام أي شكل للوحدة أو التكامل في ما بينها، بل، واستخدام ما تم احتلاله في العام 1967 من أراضي دول عربية متاخمة لفلسطين، أوراقَ مساومة لفرض تسويات ثنائية لا تعيدها إلا بشروط وترتيبات أمنية تضرب السيادة الوطنية عليها، وتلزم من يوقع عليها بالتطبيع والتخلي عملياً عن واجبه القومي تجاه القضية الفلسطينية، وإلا واجه من جديد التهديد بدق طبول الحرب ضده .
واليوم، وفي ظل ما تعيشه منطقة الشرق الأوسط عموماً، والمنطقة العربية خصوصاً، من تحولات عاصفة تنذر بإعادة رسم خرائطها وتقاسم النفوذ فيها، فإنه لا يوجد في “إسرائيل” إلا الكلام عن الحرب والتهديد بشن المزيد منها بذرائع شتى واهية وزائفة، برغم كل محاولات إمبراطورية الإعلام الأمريكي والصهيوني تمريرها وإظهارها كأنها حقائق .
فمن تصعيد التهديد بتوجيه ضربة عسكرية ضد إيران بذريعة تقدم مشروعها النووي، بكل ما ينطوي عليه ذلك من إشعال للمنطقة بكاملها، إلى التهديد بتدمير لبنان وغزة بشكل يفوق ما جرى في العدوان على لبنان في يوليو/ تموز ،2006 وفي العدوان على غزة في نهاية ،2008 إلى توتير الأجواء مع مصر عبر مطالبتها بسحب ما أدخلته من قوات إلى سيناء من دون استئذانٍ أو موافقةٍ من “إسرائيل” التي ما انفكت تتهم الجيش المصري بالتقصير في إنهاء الفوضى السائدة في سيناء، ما يشي بأن استعجال تحريك قضيتها بعملية رفح المشبوهة، إنما يهدف إلى تثبيت إلزام مصر الجديدة الانتقالية غير المستقرة والمربكة، بقيود اتفاقية كامب ديفيد وشروطها الجائرة والمذلة، الأمر الذي يكشف بدوره هوية الطرف السياسي الذي استخدم أو اخترق أداة تنفيذ هذه المذبحة، بما يذكّر باستعجال قادة “إسرائيل” في الاعتداء على غزة مباشرة بعد نجاح ثورة 23 يوليو 1952 في إطاحة النظام الفاسد التابع والمكبل بمعاهدات تجيز الوجود الاستعماري وتدخلاته التي تجرّأ نظام ما بعد الثورة بقيادة عبد الناصر على إلغائها، ليكون الاعتداء على غزة آنذاك بمنزلة حافز إضافي إلى تسريع إعادة بناء الجيش المصري على عقيدة وطنية وقومية تحررية، عدا تسريع تحديثه وتقويته وتنويع مصادر تسليحه وتدريبه، إلى التهديد بالتدخل العسكري المباشر في الصراع الدائر في سوريا وعليها، بذريعة منع تحريك أو استخدام الأسلحة الكيماوية، كذريعة لم يتوانَ الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، عن تبنيها في تصريح رسمي علني، بمعزل إن كان قام بذلك لدواعٍ انتخابية، أو كان في إطار تعبئة تمهد لتدخل عسكري مباشر في سوريا من دون موافقة مجلس الأمن، بما يذكر باستخدام ذريعة “أسلحة الدمار الشامل” غطاء لاحتلال العراق وتدميره بوصفه دولةً وجيشاً ونسيجاً وطنياً ومجتمعياً وليس نظاماً فقط .
تهديدات قادة الكيان الصهيوني لأكثر من طرف عربي وإقليمي، يجب أخذها على محمل الجد، فهي ليست دعائية، (وإن كان بعضها كذلك)، ولمن لا يأخذ هذه التهديدات المدعومة أمريكياً على محمل الجد، عليه استرجاع سجل قادة الكيان الصهيوني الحافل بشن الحروب والاعتداءات وارتكاب المجازر، فضلاً عن استرجاع مساهمتهم في تقسيم السودان والحث على الاحتلال الأمريكي للعراق وتدميره، وكل ذلك في إطار نظرية الحرب والأمن “الإسرائيلية” التي أرسى أسسها بن غوريون الذي رد يوماً على سؤال، أين يكمن العامل الأساس لقوة “إسرائيل؟” بالقول: “ليس في قدراتها العسكرية والاقتصادية فحسب، بل أيضاً في تدمير الدولة العربية في كلٍ من مصر وسوريا والعراق” .
قصارى القول: يشهد الوطن العربي وغلافه الإقليمي تحولات عاصفة تذكّر بتلك التي شهدها في أعقاب الحربين العالميتين، بما أفضتا إليه، (بتداعياتهما ونتائجهما)، من إعادة تقاسمٍ للنفوذ الدولي والإقليمي فيه، ولعله إغفالاً لتجربة التاريخ ودروسها، تخيّلُ أن قادة المشروع الصهيوني الذين أحرزوا “وعد بلفور” بعد الحرب العالمية الأولى، ونجحوا في زرع كيانهم بعد الثانية، سيتوانون عن توظيف عوامل قوتهم، بما فيها العسكرية، في استغلال هذه التحولات لتعزيز نفوذ كيانهم وتفوقه على ما عداه من دول المنطقة التي ظل هدف تفكيكها وتقسيمها والعبث بنسيجها الوطني السياسي والمجتمعي هدفاً صهيونياً استراتيجياً ثابتاً منذ أرسى بن غوريون أسس نظرية الحرب والأمن “الإسرائيلية” حتى يوم الناس هذا .
دار الخليج:الأحد ,26/08/2012