عبد الاله بلقزيز
يُشبه احتفاء بعض اليسار العربي، وبعض الليبراليين والقوميين العرب، ب”الثورات” العربية، وبقيام نظم حكم إسلامية، احتفاءهم، قبل ثلث قرن، ب”الثورة الإيرانية” التي تمخضت فأنجبت نظاماً سياسياً ثيوقراطياً احتكر السلطة والسياسة . لا يستفيد هؤلاء من أخطائهم، وإن استفادوا أتت الاستفادة على نحو كاريكاتوري مزرٍ، فحين انتبهوا – قبل عقدين مثلاً – إلى خطورة مشروع “الإسلام السياسي” (وكان ذلك بعد أن خذلتهم “الثورة” الإيرانية وأحبطت انتظاراتهم الرومانسية)، لم يجدوا من طريقة لتصريف موقفهم سوى مساندة سياسات الاستئصال الأمني للإسلاميين – التي نهجتها نظم مستبدة مثل نظام ابن علي، أو جنرالات “المجلس الأعلى للدولة” في جزائر التسعينات، أو نظام حسني مبارك – أو الصمت حيال فظاعاتها، في الوقت عينه الذي كانوا يمعنون فيه في الخلط غير المشروع بين الموقف من الجماعات السياسية الإسلامية والموقف من الإسلام . وها هم اليوم ينتقلون، فجأة، من النقيض إلى النقيض، من العداء إلى الاحتفاء .
يقولون اليوم إن الأمر يختلف، فهم شركاء – مع الإسلاميين – في الثورة وفي السلطة: حيث يشارك العلمانيون (حزب المنصف المرزوقي، وحزب مصطفى بن جعفر) “حركة النهضة” إدارة النظام السياسي والدولة في تونس . وهم شركاء – مع “الإخوان المسلمين” والسلفيين – في الثورة المصرية، وستكون للعلمانيين مهمة في النظام (في الحكومة وفي مجلس الرئاسة)، كما جرى الاتفاق على ذلك مع محمد مرسي قبيل إعلان الهيئة العليا للانتخابات عن النتائج في المنافسة على منصب الرئاسة . ينسى هؤلاء أن “فدائيي خلق”، و”مجاهدي خلق”، و”حزب تودة” (الشيوعي)، و”الجبهة الوطنية” كانت شريكاً للخميني ورجال الدين في الثورة، ثم صارت شريكاً لهم في السلطة، وأن أشخاصاً ليبراليين مثل الحسن بني صدر، ومهدي بازركان، وقطب زادة، وآخرين تولوا – في أول أمر الثورة – مناصب رئاسة الجمهورية، ورئاسة الحكومة، ووزارة الخارجية . . قبل أن ينقلب عليهم التيار الديني فيزيحهم من السلطة، ويحتكرها لنفسه، ويقيم نظاماً ثيوقراطياً، هل سيكون مصير ليبراليينا أفضل مع تيار إسلامي أبدى شغفاً بالسلطة غير مسبوق؟
بعض اليساريين والقوميين والليبراليين، من غير المتحمسين للتحالف مع الإسلاميين ولا من الداعين جهرة إليه، يسلم بالأمر الواقع ويكتفي بالقول: “دعونا نجرب الإسلاميين، قبل أن نحكم عليهم، مثلما جربنا القوميين والليبراليين في ما مضى” . والدعوة هذه مزعومة لأنها تتجاهل حقيقة أن النخب الإسلامية وصلت إلى السلطة، وأدارتها، في بلاد عديدة من العالمين العربي والإسلامي (السودان، إيران، باكستان، أفغانستان)، وقدمت أسوأ مثال يمكن لنخبة سياسية في العالم أن تقدمه للرأي العام . ويزيد بعض هؤلاء بالقول “إن السلطة ستعلمهم الواقعية والبراغماتية وتخفف من غلواء النظرة الدينية المتشددة لديهم” . وهؤلاء – أيضاً – ينسون أن الإسلاميين سادة الواقعية والبراغماتية وأساتذتها المبرزون، وأن هذه هي التي أوصلتهم إلى السلطة، وبالتالي فإنهم في غير حاجة إلى تجريب السلطة للصيرورة واقعيين وبراغماتيين، وهل من براغماتية أكثر من أن يسلموا بمعاهدة كامب ديفيد بوصفها أمراً واقعاً؟ لكن بعضاً ثالثاً يضيف واثقاً: “دعوا الشعب، الذي صوت لهم، يحاسبهم على وعودهم بعد أن تنتهي ولايتهم، ويصحح خطأه” . وليس هذا من البداهات، وإنما هو محض فرضية لا دليل عليها، حتى الآن، من الواقع، وهي ليست فرضية لكون أحدنا لا يعلم إن كانت ستكون هناك انتخابات أخرى قادمة – فمن الأليق أن نحسن الظن بالإسلاميين وبقدرة الشعب على فرض احترامهم انتظام المواعيد الانتخابية – وإنما هي فرضية لأن أحداً لا يعلم إن كان الشعب سيحاسبهم حقاً، كما يأمل علمانيونا، أم سيكافئ أخطاءهم بتصويت جديد؟
ما العمل إذاً؟ لقد وصل هؤلاء إلى السلطة برضا قسم كبير من الشعب، فهل علينا أن نقف في وجه إرادة الشعب؟ وهل هذا موقف ديمقراطي؟ يتساءل كثيرون سؤالاً جديراً بالإصغاء والاهتمام .
لا يمكن للمرء، للديمقراطي، إلا أن يحترم إرادة الناخبين، وينزل عند حكمهم أياً يكن، ويسلم بنتائج الاقتراع، لكن فرقاً كبيراً يقيم بين احترام اختيار أكثرية الشعب التصويت ل”الإخوان المسلمين والسلفيين، وبين محالفتهم ومشاركتهم السلطة بدعوى أن الشراكة في الثورة تستوجب الشراكة في السلطة . وبصرف النظر عما إذا كانت الأحزاب الإسلامية، والقومية، والليبرالية، واليسارية، مشاركة حقاً في صنع الثورة أم ضيفاً على طبقها ومائدتها، وعما إذا كانت نتائج الانتخابات من ثمار الثورة أم مصادرة لها، فإن من أبجديات الفكر الحديث أن النظام الديمقراطي العصري الذي يضعف المشاركة السياسية للمواطنين جميعاً، يضمنها في موقع السلطة، كما يضمنها في موقع المعارضة، وأن من يلوذ بالمعارضة، معتذراً عن عدم المشاركة في السلطة التنفيذية، لا يحترم فقط إرادة الشعب الذي لم يمنحه الأغلبية، وإنما – أيضاً- يختار موقع المعارضة لتحسين شروط الديمقراطية في النظام، فالمعارضة من أساسات النظام الديمقراطي الذي لا تقوم له قائمة من دونها .
على اليساريين والقوميين والليبراليين أن يعترفوا بهزيمتهم المدوّية، وألا يغطوها بحديث غير مُجدٍ عن الشراكة في الثورة . وبدلاً من أن يصرفوا وقتاً في الدفاع عن “حلفائهم” الإسلاميين، ويستجدوا حصة رمزية في حكومتهم، عليهم أن يعودوا إلى المعارضة، والمجتمع والشعب، ليعيدوا بناء مؤسساتهم المدمرة، ويرمموا شروخ صورتهم .