هلال البادي – البلد
(هذا هو مقالي الأخير الذي سأكتبه في قضايا الشأن العام، من بعدها سأتوقف تماما عن الكتابة العامة، ربما أكتب قصصا ومسرحيات، وربما همسات أدبية، لكنني سأتوقف، وسأتفرج، لن أتفوه بكلمة، وسأنتظر…).
من بيده القلم لا يكتب نفسه شقيا، مثل دارج يستخدم عند رؤية من يملك السلطة ويفعل بها ما يشاء.. هو الأمر ذاته ينطبق الآن على ما يحدث في بلادنا، فأجهزة الأمن تمتلك السلطة الكافية لتفعل ما تشاء، للدرجة التي نعتقد فيها أنها أيضا تستطيع امتلاك الإعلام الذي خلنا لوهلة بانه يمكن أن يتحرر من ربقة السلوكيات القديمة ويقدم شيئا مفيدا للمجتمع العماني التواق فعليا إلى إعلام موضوعي ونزيه ويسعى إلى تنمية الإنسان من داخله، لا أن يكون ماكينة علاقات عامة تلمع منجزات بتنا ندرك في الغالب الأعم أنها ليست كذلك، بل بأن قصورا كبيرا يعتريها وفسادا في حالات كثيرة
الأجهزة الأمنية كان بإمكانها أن تدير الأمور لصالح عمان الغد وليس لصالح عمان اليوم، وأن تقول لمن أساء: أنتم أسأتم وتستحقون العقاب، ولكن دون أن يداس على القانون، دون أن يكسروا الصورة الجميلة لعمان، التي أثبتت في مرات كثيرة أنها تطبق القانون بشكل جيد، ولا تحتاج إلى أن تخالفه كما حدث في أمر اعتقال من تم اتهامهم بالإساءة، ثم بعد أن يتم النطق بالحكم تعمد إلى إساءة أكبر ليس لشخوص المتهمين بل لمجتمع بأكمله عندما تنشر صور المدانين وبطريقة اخترقت أيضا القانون ووضعته جانبا
بعضنا قال: ربما كان خطأ إعلاميا من الصحف، وبأننا في زمن الحريات يمكن لنا أن نتحرر قليلا من بعض القيود التي تم وضعها سابقا بدعوى حماية المجتمع، وهي نظرة بالمناسبة ليست سيئة إذا ما كانت اجتهادا إعلاميا خالصا، لكننا ندرك أنه ليس اجتهادا ولا يحزنون.
هذا الخطأ عالجته إحدى الصحف بمقال سماه البعض اعتذارا، والبعض الآخر لفا ودورانا على صلب القضية، لنكتشف بعد عدة أيام أن من كتب تلك الكلمة ومن يعمل في تلك الصحف لا حول لهم ولا قوة، فأمر النشر مفروغ منه لأهداف بتنا ندركها تماما من قبيل معاملة المسيئين بإساءة هي أشد وطأة، ومن قبيل القول لأهالي هؤلاء الشباب وأسرهم وقبائلهم بأن أحسنوا تربية أبنائكم، وكأننا ما زلنا في زمن الأبوة الذي يفترض بالمرء أن يجل أباه وإن كان في الستين!
ومن قبيل أن لا كلمة مؤثرة لأرباب القلم الذين دافعوا ظاهريا عن من أساء، فيما باطنا كانوا يدافعون عن فكرة النظام والقانون واحترام الإنسان
ما الذي يجعل عمان مختلفة اليوم عن بلاد أخرى؟ إنها حتى وقت قريب جنة كل من يريد العيش بسلام، ولكننا بتنا نشك في هذا السلام وفي هذا الأمان بسبب من هذا التخبط الأمني وهذه الروح الانتقامية التي باتت واضحة المعالم الآن
ثم من يخسر عندما تشق وحدة الصف العماني؟ أليس الغد؟ أليس أبناء هذا البلد؟ ألسنا نحن من نخسر؟ كل أبناء عمان يخسرون عندما يفقدون مستقبلهم، عندما يقفون على حافة الجرف، الهاوية، ويكادون أن يسقطوا فيها، ويكفي لو تزحزحت قدم أحدهم لجرت كل الأقدام إلى تلك الهاوية
هل نريد أن نصل إلى هذه المرحلة؟
لا أظن أن أي عماني يريد ببلاده سوءا، وسأعتقد بأن أجهزة الأمن تقوم الآن بما تراه صائبا، ولكن فلتتحملوا وجهة نظرنا أيضا، بل عليكم أن تتلقوها بكل ترحاب، إذ ربما تفتح لكم أفقا جديدا في التفكير، فليس كل ما يقال يمكن وضعه تحت بند الإساءة، أو التحريض، بل قد يكون كلاما يصب في صالح البلاد
إذن فلتسمحوا لي أن أقول بأن هذه الخطة التي تعملون بها هي خطة قصيرة المدى، ولن تخدم البلاد كثيرا.. كان ينبغي أن تفكروا في توليف العمانيين على قلب واحد، لا أن تقسموهم كي تسهل مهمتكم، كان عليكم أن تفكروا أن واجبكم هو التفكير الجدي في السنوات العشرين المقبلة عندما ينفد النفط، وعندما نجد أن العالم من حولنا تعدانا بمسافات ضوئية. انصرفوا للتفكير في الأمن الاقتصادي لهذه البلاد، قبل أن تفكروا في إحكام قبضتكم على أفئدة الناس، فصدقوني كل المحاولات الجارية لن تجدي نفعا في عالم متغير كالعالم الذي نعيشه اليوم
وبكل تأكيد أنكم سألتم أنفسكم: ما الذي أوصل شبابا صغارا في السن إلى مرحلة تشبه الهذيان؟ فأساء كثير منهم؟ لابد أن هناك أسبابا تعوها جيدا، ولكن هل يمكن أن تضعوا لها حلولا؟ ربما أنتم منشغلون الآن في الحل الآني، ولكن التجارب الكثيرة تؤكد أن الحلول الآنية لا تصمد طويلا في وجه شباب يحلمون بأوطان جميلة، يحلمون بأنفسهم أنهم يحققون طموحهم. كثير من هؤلاء الشباب يتحسر على وضع بلاده بين العالمين، وبأن شبابها لا يجدون فرصهم في حياة كريمة، لا يجدون الفرصة لإبراز طاقاتهم الكبيرة التي توازي طاقة أي شاب في العالم يقدم إنتاجا يساوي أضعافا مضاعفة ما يقدمه شاب عماني في نفس المرحلة
طبيعي جدا أن يتحولوا إلى السلبية، عندما يجدون أنفسهم في وضعية كهذه، وطبيعي جدا أن تجدوا أنفسكم تتساءلون: ما الحل؟ لكن صدقوني حلولكم الحالية ليست صائبة تماما، لذا عليكم أن تفكروا أكثر، إن كانت عمان هي همكم، وإن كان الشعب العماني هو هدفكم
من المؤكد أن أهدافكم الحالية ستتحقق، مع بعض الفشل الجزئي، ولكن تأكدوا أن الفشل الحقيقي لن يأتي اليوم، ولا غدا، ولا الشهر المقبل أو العام المقبل، بل بعد حين. ساعتها ـ أرجوكم ـ لا تفكروا كما أنتم تفكرون الآن، لأن تفكيركم الحالي لن يحل شيئا، بل سيفجر ـ ربما ـ البلاد بأكملها.