عريب الرنتاوي
الأحداث والتطورات في ليبيا عادة ما تأخذ شكل "المفاجأة"…من صعود القذافي إلى مصرعه، تاريخ حافل بالمفاجآت الدارمية، بعضها بلغ ذورة التراجيديا وبعضها الآخر يأخذ شكل الكوميديا الهابطة…تنظيم الإنتخابات في ليبيا وحده انطوى على قدر كبير من "المفاجأة"، في بلد كان يسير إلى حافة الانقسام والتقسيم والفوضى والحرب الأهلية…"أم المفاجآت" تجلّت في النتائج غير المتوقعة للإنتخابات، وتقدم "قوى التحالف الوطني" التي تشكل خليطاً من الأحزاب الوطنية والوسطية والليبرالية على القائمتين الإسلاميتين المنافستين، قائمة العدالة والبناء الإسلامي "إخوان" وقائمة وطن (سلفيين).
في مصر وتونس، حواضر الليبرالية والعلمانية واليسار والقوميين، تفوز قوائم الإسلاميين…يتسيّد الإخوان والسلفيون المشهد…في ليبيا التي ظلت حبيسة جنون القذافي وبطشه، البلد القبلي / الجهوي / الذي لعب الإسلامييون دوراً بارزاً في ثورته، يأتي الإسلاميون في الموقعين الثاني والثالث، وبفارق كبير عن الموقع الأول في بعض الدوائر وفقاً لنتائج الفرز الأولية لعدد من الصناديق والدوائر.
هي مفارقة بلا شك غريبة وعجيبة، وتحتاج إلى دراسة أكثر عمقاً من التغطيات الإعلامية السريعة التي تناولت الحدث الليبي منذ أن صارت ليبيا في قلب دائرة الضوء مع اندلاع ثورة شباط/يناير 2011….لنكتشف اليوم، أننا لا نعرف الكثير، "جماهيرية الظلام"…لا نعرف عن ميول أهلها ووجهتهم وتوجهاتهم…بل ولا نعرف الكثير عن ثورتها برغم التغطية إعلامية الواسعة، التي لم تحظ ثورة بمثلها، خصوصا في الإعلام الدولي، وبالأخص مذ أن صار "الناتو" وبعض العرب، لاعبين داخليين مقررين في شؤون الأزمة الليبية وشجونها.
نكتشف الآن، أننا أمام إعلام انتقائي، يقرر لنا، من ضمن أجندات سياسية شديدة الإرتباط بمصادر تمويله ومالكيه و"حملة أسهمه"، ما ينبغي أن نشاهده وما لا ينبغي أن نشاهد أو نعرف…نكتشف الآن، للمرة الثالثة أو الرابعة في غضون أقل من عام، قدرة هذا الإعلام على صياغة تصوراتنا والتحكم بتفكيرنا وقراراتنا، نحن الذين نعتمد عليه وننهل من معينه الذي لا ينضب، أنصاف الحقائق ومُزق المعلومات.
لقد رأينا هذا الإعلام، النفطي منه على وجه الخصوص، يأتينا برجال ومعممين وأصحاب "عصبات" مدججين بالسلاح، يتحدثون ويتهددون ويقررون، ظننا أن ليبيا بمجملها، قد باتت ملاذاً للسلفية والقاعدة، وأن الإخوان المسلمين، بما هم تنظيم مديني وحزب سياسي، بالكاد سيظفرون ببعض المقاعد…لم يخطر ببالنا أن ثمة في ليبيا قوى أخرى، ولم تردنا حتى في أحلامنا تكهنات وتوقعات، بأن تحظى هذه القوى بالمكانة الأولى، وبفارق وازنٍ عن المكانة الثانية في سلم الفائزين بالإنتخابات.
مثل هذا المشهد يتكرر في ثورات عربية أخرى، وأزمات عربية أخرى…نحن نرى "أبو الغضب" و"أبو الجماجم" يتحدثون على الهواء في بث حي ومباشر، نحن لا نرى كثيراً هيثم منّاع ولا ميشيل كيلو، لا نرى كثيراً فايز سارة وسمير عيطة…نرى ألواناً من المعارضين يجري اختيارها بدقة، لتقول ما يُطرب هذه القنوات وما ترغب في الاستماع إليه…لقد شاهدنا هذا الفيلم من قبل، وها نحن نختبر "ذكاء" الفضائيات التي لم تأت صناديق الاقتراع، مصداقاً لصورتها وصوتها، لكأننا أمام ثورات افتراضية في بعض جوانبها، نقدم منها بعناية فائقة ما يخدم الأجندة، ونطوي صفحة كل ما يتعاكس معها، ومع ذلك هناك من لا يزال من بيننا من يتحدث بصرامة عن مهنية هذا الإعلام وموضوعيته.
لا ندري ما الذي جرى في ليبيا خلال الأشهر الستة عشرة الفائتة…هل جرى تضخيم دور الإسلاميين على اختلاف مدارسهم لغاية في نفس يعقوب، أم أن يعقوب ليس حاضراً في المشهد الليبي ونفسه خالية من أي غرض، وكل ما في الأمر أن الإعلام يبحث عن "قصة مثيرة" والإثارة تسير غالباً في ركاب الإسلاميين؟
هل تبدّلت نظرة الرأي العام للإسلاميين في الأشهر الأخيرة؟…وإن كان الحال كذلك، فما الذي غيّرها وغيّرهم…هل هي فوضى السلاح التي عمّت ليبيا بعض سقوط "ملك ملوك أفريقيا"؟…هل لتراجعات إخوان مصر وسلفيها، ونهضة تونس وسلفييها، وعدالة المغرب وتنميته، أثر على المشهد الليبي؟…وهل يمكن للتأثير أن يكون على هذا القدر من السرعة والجاذبية والتأثير؟.
أسئلة وتساؤلات لا نزعم القدرة على الإجابة عليها، فهي أبعد من تناولنا….أسئلة وتساؤلات نتركها برسم الباحثين والمختصين في الشؤون الليبية، ولسنا منهم…لكننا بتنا متأكدين من حقيقة أن الفضاء لا يأتي دائما بالحقيقة، أو على الأقل لا يأتي بها كاملة.