اسماعيل ابو البندوره
في الندوة التي عقدت في رابطة الكتاب الاردنيين تحت هذا العنوان، وتزامنت مع ذكرى وفاته التي تصادف في الثالث والعشرين من حزيران، قلت : أن عفلق قد جاء الى السياسة من الأدب اذ بدأ حياته الفكرية في الثلاثينيات اديبا مرهفا يكتب الشعر والقصة والمسرحية، وقلت بأنني أود من هذا المدخل أن اضيء هذه الفترة الغائبة من حياته الفكرية، وأن اسلط الاضواء على اهميتها ودورها في بناء نصوصه، وأن اشير الى الجملة الرومانسية الراقية التي حملها من نص الادب الى نص السياسة والى الألفاظ والايماءات التي ارتحلت معه من الادب الى السياسة، ولكي اتوقف نقديا امام من حاولوا الامساك ببعض الفاظ نصه العميق بالجرم المعرفي المشهود لكي يقولوا أنه نصا رومانسيا ومجردا كما فعل "ساطع الحصري" مثلا في نقده لعفلق.
وقلت أن عفلق قدم صياغة متقدمة عن العلاقة بين العروبة والاسلام في تلك الفترة تصلح أن تكون مدار حوار وتداول وتوظيف في اللحظة العربية الراهنة، وبينت أن عفلق ميز بين ظاهر الدين وباطنه وكشف حقيقة الزيف الذي لحق بالدين، وحقيقة من يتاجرون بالدين ويوظفونه لمآرب سياسية آنية لاتخدم الامة وقضاياها. كما أن عفلق استدعى الاسلام الحضاري في تشكيل اطروحته عن استلهام هذه العلاقة، وقدم اطروحة توفيقية بين الدين والحياة، وعلمانية جزئية تعترف بأن الدين شيء أساس في حياة العرب وتسعى الى توحيد ابناء الامة في الحقوق والتشريعات وتضعهم على صعيد واحد في علاقتهم بالدولة، وهي مع الايمان ضد الالحاد، وأن الالحاد موقف مزيف في الحياة، وأن العروبة جسد روحه الاسلام، وأن خصوصية النشوء التاريخي للقومية العربية أنها قد اقترنت بالاسلام بخلاف قوميات اوروبا التي جاء اليها الدين من خارجها، وعلى ضوء ذلك خاطب عفلق المسيحيين العرب من اجل النظر الى الاسلام باعتباره تراثهم الحضاري والثقافي، وقال : أنه عندما تستيقظ قومية المسيحيين العرب يقظتها التامه فسوف يكتشفون هذه الحقيقة ويجسدونها في حياتهم.وبينت ما اشار اليه بأن اوروبا تربط بين العرب والاسلام ربطا تاريخيا، وتعاديهم وتضعهم في دائرة واحدة، ولذلك فان قدر القوميين العرب أنهم سيجدون انفسهم في لحظة تاريخية معينة هم المدافعون عن الاسلام وقيمه الصادقه الحقيقية.
كما اوضحت أن المنهج الفكري لعفلق كان استقلاليا يريد أن يستنبت رؤى استقلالية عن الواقع العربي وحوله، وفكرا مطابقا لقضاياه، وأنه عني بتحقيق الافكار لا تنسيقها بشكل ممنهج، وكان يسعى سعي ماركس ويؤيد اطروحته القائلة " أن الفلاسفة يعملون على تفسير العالم والمطلوب تغييره " وذلك كان هاجسه ايضا بعد أن قرأ الواقع العربي قراءة صحيحة وخصبة، وقرأ الظاهرة الاستعمارية، واستوعب كل الافكار المطروحة وقدم نقدا لها، واشتق رؤيته النقدية التي أنشأ على ضوئها مجمل افكاره، وافكار الحزب الذي أنشأه.
وأشرت ايضا أن فكر عفلق كان شموليا بمعنى أنه تعرض الى العديد من الاشكاليات والقضايا القومية في آن واحدا ولم يترك قضية لها علاقة بالمصير العربي الا وقدم حولها نظرات واطروحات، وكان فكرا حدثانيا يتعامل مع الاحداث التي تنشأ وتطرأ في الواقع العربي ويقدم رؤى حولها، كما كان فكرا سجاليا يدخل في حوار مع الافكار والنظريات والتيارات يناقشها وينقد فراغاتها ويتبادل معها الفهم والمثاقفة والتجابه في بعض الاحيان. كما أن فكره كان نقديا وليس نقضيا أي أن غاياته المعرفية كانت تتجه الى كل مايحدث نقلات نوعية في الواقع العربي ويطوره، ولم يكن النقد لدية احترافا للهجاء والذم والقطيعة مع فكر الآخرين.
وبينت أن عفلق لم ينصف لا أثناء حياته ولا بعد مماته، فقد طورد بالتشوية والتزييف ولايزال يطارد حتى اللحظة، وأن علينا أن لا ننسى بهذه المناسبة، تلك الجريمة البربرية النكراء التي اقدم عليها الغزاة الامريكان بعد احتلالهم لبغداد عام 2003 عندما ذهبوا لاجتثاث قبره معتقدين أن هذه خطوة ضروية لاجتثاث المرجعية القومية وأبرز رمز لها من ارض العراق، وخاب فألهم عندما أنبت القبر واطيافه وايحاءاته القومية المقاومة التي هزمتهم وشتتت شملهم، واعادت فكر عفلق الى مكانه الصحيح في عقل العرب.