اسماعيل ابو البندوره
شهدت الامة وتشهد الآن من مغربها الى مشرقها وعلى مدار مايقرب من عامين موجة تحولات ومخاضات جديدة عنوانها التغيير والانقلاب على الواقع العربي المتردي، ومحاولة الخروج من حالة الانحطاط الى حالة نهضة مفترضة، وبدت تلك التحولات على الرغم من اختلاف المناهج في تناولها ومقاربتها سياقا هاما من سياقات التطور السياسي والتاريخي العربي، وتعبيرا من تعبيرات النزوع الى الحرية والتقدم، ورفض الجمود والاستعصاء.
ولم يكن ماشهدته الامة طوال العاميين الماضيين من انتفاضات وثورات واحتجاجات غائبا عن عقلها وحراكها واهتماماتها، وهي تعاني من الانحدار والتراجع والانزواء على حواف التاريخ، وتعاين الدرك الذي وصلته على كافة الصعد، الأمر الذي ولد لديها حسا عاليا بالرفض، وارادة قوية بضرورة وقف التراجع، وتوليد لحظة تدفع الى ضرورة المبادرة بتغيير الاوضاع القائمة والسائدة. وعرفت الامة بحدسها ووعيها أن المعركة مع كل هذه التراكمات لن تكون سهلة، فهناك التحدي الداخلي الكبير المتمثل بالاستبداد، وفقدان السيادة، وفشل التنمية، والاحباط الشعبي العارم، وهناك التحدي الخارجي الذي شاء بشتى الصور أن يجعل معركته المركزية المصيرية والحاسمة تتموضع في هذه المنطقة الجيوستراتيجية الهامة حفاظا على النفط، والكيان الصهيوني الذي هو امتداده ومشروعه في المنطقة.
وكان لابد أمام هذه الحالة الصعبة والمعقدة، أن يجد الشعب طريقه، وأن يولد الصياغات المناسبة لمواجهة هذه التحديات الهائلة، فكانت النتيجة أن نجح الشعب جزئيا في بعض الاقطار في تحقيق اغراض انتفاضته واسقاط انظمة الاستبداد، واخفق أو تعثر في اقطار اخرى بعد أن امتدت ايدي كثيرة لتجهض وتغير المسارات، وتضع الامة امام تحديات نوعية ومفاجئة لم تكن في الحسبان، وعندما واجهت انتفاضة الشعب حالة من الاختلاط والتشارك بين الداخل العربي "ممثلا بمعارضة شكلانية وعميلة احيانا، تدعو الى استدعاء الاجنبي، والاستقواء به"، وبين الخارج الاستعماري لوقف هذا المد واعاقته وتحريفه، وتحويله الى فوضى وثورة مضادة.
واصبحت المعركة بعد هذه المعطيات والتجليات المتداخلة صعبة وازدادت تعقيدا بعد اختلاط الاهداف المشروعة والنبيلة للشعب وسرقة ثورته، والاهداف الشريرة لقوى الردة والاستعمار التي تريد تحويل النهضة العربية الى سقوط تاريخي وسياسي دائم ومتكرر، وحتى تخلق اوضاعا يعاف فيها العربي أي تغيير، ويتمسك بما كان قائما حتى ولو كان استبدادا أو انحطاط.
هذه هي الصورة الجديدة المغبشة الآن، وهذه هي المساحة الملتبسة التي يتجادل حولها الناس، وهذا هو السؤال الناتيء الجديد الذي نشأ في العقل والواقع العربي، بعد أن تم تغيير المسارات وحرفها عن سياقاتها، واصبحت المعادلة الثقيلة، أن تختار بين الموافقة على انهيار الوطن أو شرذمته واقتتاله على ايدي من صاغوا هذه المعادلة الجديدة في الداخل والخارج، أو الارجاء وكبت بعض الآمال والتطلعات الشعبية بضرورة التغيير ووجوبه والوقوف بوجه هذا المد الاستعماري الحربائي الجديد؟
ولقد أثبتت المعركة أن الأنظمة ممعنة في عنادها السلطوي – الاستبدادي، وأن لا وجود لقوى سياسية معارضة تمتلك مشروعا سياسيا بديلا، ومدركة في معظم الاحيان لطبيعة التناقض والتحديات، ومؤهلة وقوية لطرح بدائل عقلانية مغايرة عما هو سائد، وتملك القدرة والوعي على التعامل مع مثل هذا اللون من التحديات المتداخلة والحساسة، ولذا تشتتت لدى بعض فرقها الرؤى وتشرذمت، أو تصادمت ارتجالا واستخفافا، بين ناقم على الأنظمة يريد تغييرها بأي ثمن وحتى لو تم ذلك عن طريق التدخلات الخارجية، وبين وطني واسع الأفق يدرك طبيعة التناقضات ويدرك ما مايتوخاه الاستعمار في هذه اللحظة العربية الجديدة، ولايريد بأي شكل وحال أن يقدم له فرصة مواتية لاعادة انتاج حالة استعمارية جديدة مستحدثة في الوطن العربي، ويعض على جراحه، ويسكت لحظيا على أذى الأنظمة واستبدادها خدمة لهذا الغرض.
وكان منطق الامور يتطلب من قوى النهضة في الوطن العربي أن تنحاز الى خيار مواجهة الاستعمار باعتباره اولوية قومية – سياسية وبكل الطرق، وابقاء المعركة مفتوحة مع الأنظمة الاستبدادية حتى تتحقق اهداف الشعب في الحرية والكرامة والمشاركة والاستقلال. وتلك هي المهمة المزدوجة الآن لابقاء هذا المزاج الثوري قائما ومستمرا، وحتى لايخبو وهج اللحظة التاريخية التغييرية السائدة، والتي ستؤدي في مآلاتها حتما الى الخلاص من الاستبداد والاستعمار معا!!