د/ يوسف مكي
في نظريات صنع القرار، بالعلوم السياسية، يتم الاختيار بين مجموعة من البدائل وفقاً للمصالح القومية، ولذلك يختلف الموقف بين مرحلة وأخرى وفقاً لمقتضيات المصالح . ولا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة إلى صناعة القرار الأمريكي، موضوع حديثنا هذا . ولأن موضوعنا هو حق العودة والموقف الأمريكي منه، والدور البارز للكونغرس، فإن تسليط الضوء سيكون مركزاً عليه .
وفقاً لتقاليد هذا المجلس، تمر صناعة القرار بمستويات عدة، تبدأ بمشروع يتقدم به تكتل أو أكثر من القوى المتنفذة بالمجلس والمجتمع، كالمنظمة اليهودية الأمريكية، “الأيباك” أو المنظمات المناهضة للعنصرية، أو اتحاد المزارعين، وما شاكل ذلك . وشرط نجاح المشروع هو التصويت عليه من قبل أغلبية أعضاء الكونغرس . وهناك مستوى آخر، يجري تبني قرار ما به، يعدّ غير ملزم التطبيق للإدارة التنفيذية . ويمثل اتخاذ القرار موقفاً سياسياً آنياً، ورؤية استراتيجية مستقبلية، فهناك تصويت للكونغرس على اعتبار مدينة القدس عاصمة أبدية للكيان الغاصب . وهناك مشروع بايدن لتقسيم العراق الذي أيده الكونغرس، وصدر قرار غير ملزم به . وهناك أيضاً قرارات مماثلة تتعلق بهضبة الجولان السورية .
بمعنى آخر، إن القرارات التاريخية الكبرى التي أقدم، ويقدم على اتخاذها الكونغرس الأمريكي، لا تبزغ بين ليلة وضحاها، بل تمر بمراحل عدة، يجري خلالها رسم الخطط والخرائط، وبرامج التنفيذ، وتبني الاستراتيجيات، وتمر بمرحلة من الإعداد النفسي للجمهور للتكيف وتأييد الموقف المطلوب . ومرحلة الإعداد هذه ذات أبعاد مركبة ومعقدة، تأخذ في الحسبان، الحديث عن المصالح الأمريكية واحتمالات تعرضها للمخاطر، في حالة التلكؤ عن اتخاذ موقف حاسم من الخصم . ويتضمن ذلك شيطنة الخصم، وتجريده من أي صفة إنسانية وأخلاقية، وتبلغ هذه الشيطنة حد الإنكار .
وفي ما يتعلق بشيطنة الخصم، تكررت هذه الحالة، بنسب متفاوتة في التاريخ الأمريكي منذ نشأته، حتى يومنا هذا، وكانت البداية مع الهنود الحمر، الذين جرت إبادتهم، واعتبروا معوقاً لقيام حضارة مدنية في القارتين الأمريكيتين . وأعيد تكرار ذلك بقوة أثناء الحرب الأهلية، وفي الحرب العالمية الأولى، وخلال الحرب الكونية الثانية، أصبح تعبير “دول المحور” مرادفاً لمعنى الشر .
ولم يكن الفلسطينيون ومقاومتهم الباسلة، خارج هذا التوصيف . فالفلسطينيون الذين يدافعون عن كرامتهم، ويكافحون من أجل حرية بلدهم، إرهابيون ضمن عملية الشيطنة التي يخضع لها خصوم السياسة الأمريكية . ولم تتردد إدارة الرئيس جورج بوش وبتوافق تام مع الكونغرس، إثر حوادث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 عن ضمهم ضمن قوائم الإرهاب، ليكونوا هدفاً معلناً للحرب العالمية التي دشنتها تلك الإدارة، وليتأكد مجدداً أن حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية والاستقلال وحق تقرير المصير، هي شعارات في المزاد وخاضعة لقوانين البورصة، شأنها في ذلك شأن بقية السلع ترتفع أسهمها حيناً، عندما تحتم مصالح الكبار ذلك، وتتهاوى كقيم معيارية وأخلاقية عندما تتعارض مع سياساتهم ومصالحهم .
لم تجد القوى العظمى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وبريطانيا غضاضة في الاعتراف بمشروعية اغتصاب الصهاينة لأرض فلسطين، وإعلان قيام الدولة اليهودية العام ،1948 رغم أن ذلك تم على حساب السكان الأصليين الذين اقتلعوا من جذورهم وطردوا من وطنهم وأصبحوا لاجئين بالدول العربية المجاورة: الأردن وسوريا ولبنان . وليمكثوا في مخيمات بائسة بنتها لهم وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا”، متطلعين إلى يوم ينتصر فيه ميزان العدل فيعودون إلى أطلالهم ومزارعهم، وليشكل هؤلاء لاحقاً بعد عقدين من الزمن العمود الفقري وقاعدة الكفاح الفلسطيني المعاصر .
منذ غزو لبنان في مطالع الثمانينات من القرن المنصرم، بدأ حلم قيام الدولة الفلسطينية يخبو رويداً رويداً، ومع تراجعه خبا الأمل في العودة . وجاءت تطورات التسوية السلمية، وصولاً إلى اتفاقية أوسلو مؤكدة سعي الإدارة الأمريكية الحثيث لشطب حق الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم، لتتحول عملية الشطب هذه إلى شرط سابق على تحقيق أية تسوية سلمية تضمن قيام الدولة الفلسطينية بالضفة الغربية وقطاع غزة .
وتساوقاً مع هذه المواقف، طرح مشروع قانون جديد، تقدم به ثلاثون عضواً بالكونغرس الأمريكي، بقيادة الجمهوري مارك كيرك، يقضي بإعادة تعريف اللاجئ الفلسطيني، بحيث يقتصر على الجيل الأول من اللاجئين الذين طردوا عنوة من مدنهم وقراهم في حرب النكبة 1948 .
والمعنى هنا واضح، فالقرار بتعريف اللاجئ الفلسطيني، يشمل فقط الأحياء من اللاجئين الذين غادروا قبل أربعة وستين عاماً، ولا يشمل أبناءهم أو أحفادهم، وهو بذلك محاولة أخرى، في الاتجاه الذي فصّلناه أعلاه . إنه باختصار قتل للتاريخ، ووفقاً لهذا التعريف، لا يتوقع بقاء أحد من اللاجئين الفلسطينيين على قيد الحياة بعد عقد من الآن، وبذلك يتم إقفال الملف نهائياً ولا تعود هناك ضرورة إلى الإبقاء عليه .
هنا وجه آخر لعبقرية المحتل وعنصريته، والقوى التي تدعمه . فالثمانمئة ألف فلسطيني، الذين شردوا من وطنهم تجاوز تعدادهم خمسة ملايين لاجئ وفقا لسجلات وكالة الغوث، ولا يستفيد من خدمات هذه الوكالة سوى عدد قليل من هؤلاء اللاجئين . لكن بقاءهم في هذه الخانة، خانة اللاجئين يشكل قنبلة موقوتة، تعرّي وحشية المحتل، وتكشف زيف ادعاءاته في أرض السلام . وإذاً، فالمطلوب حالة إنكار من نوع آخر، هي ما تكشفت عنه عبقرية أعضاء الكونغرس الثلاثين “المحترمين” .
ووفقاً لتقرير المتقدمين بالمشروع، فإن عدد الأحياء من اللاجئين الفلسطينيين لا يتجاوز الثلاثين ألفاً، جميعهم من الشيوخ . وهؤلاء وحدهم يستحقون مساعدة “الأونروا” . وبهذا يحقق دعاة المشروع هدفين في آن، الأول وهو الأهم، إنكار وجود اللاجئين بعد عدة أعوام من هذا التاريخ جملة وتفصيلاً . والثاني، القيام بعملية تجويع وقتل لهؤلاء، ليصبحوا في وضع يجبرهم على الرحيل من مخيماتهم والبحث عن مأوى في أي مكان، ولتصبح هويتهم الفلسطينية في مهب الريح . يؤكد صحة هذا التحليل، تضمن المشروع المقدم إلى الكونغرس طلباً بتخفيض مساهمة الولايات المتحدة في ميزانية الأونروا، تحت ذريعة الحفاظ على أموال دافعي الضرائب .
طرح هذا المشروع، هو حالة إنكار أمريكية جديدة تتعدى مخاطرها شطب حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وإنكار وجودهم لتصل حد إنكار من نوع آخر، يهدد الاستقرار بالبلدان العربية التي تستضيف الفلسطينيين بالمخيمات، وتحديداً الأردن وسوريا ولبنان . فقد أصبح واضحاً أن المطلوب هو تفجير الأوضاع في جميع البلدان التي لها حدود مباشرة مع الكيان الصهيوني، ليبقى الكيان الغاصب وحدة سيد الموقف . فهل يتبارى القادة العرب، باتخاذ موقف شجاع لمواجهة حالة الإنكار هذه قبل أن يبلغنا الطوفان؟