حمدي قنديل
الحكم الذي صدر على مبارك وعصابته احتقار لشعب مصر، وإهانة لثورته، وإهدار لدم الشهداء والمصابين، وإسقاط لدولة القانون..
أقر وأعترف بأني لم أدرس القانون، لكني بقواعد المنطق أسأل: كيف يدان مبارك والعادلي في فقرة من الحكم،
ويبرأ في فقرة أخرى أعوانهم المسؤولون عن الأمن المركزي والأمن العام وأمن القاهرة والجيزة ومباحث أمن الدولة؟.. إذا ما كانت أحكام البراءة قد صدرت في القضايا السابقة التي اتهم فيها ضباط الشرطة بقتل المتظاهرين في مناطق مختلفة، بدعوى أنهم كانوا يدافعون عن أقسام الشرطة وعن أنفسهم، فمن الذي قتل عشرات المتظاهرين ودهسهم بالسيارات في ميدان التحرير بالذات أمام أعيننا وأعين العالم أجمع؟.. هل هو اللهو الخفي، أم الطرف الثالث، أم من بالضبط؟.. ما الذي استقر في يقين القاضي رغم غياب الأدلة؟.. وهل يؤمن فعلا ببراءة المتهمين؟.. وإذا ما كان الحكم يؤكد أنه لا توجد أدلة يقينية تطمئن إليها المحكمة، فهل هذا تمهيد لتبرئة مبارك والعادلي عندما يطعن في الحكم أمام محكمة النقض؟.. وهل الحكم على العادلي حكم صوري طالما أنه سيقضي بقية حياته في السجن بما سبق أن صدر ضده من أحكام؟.. وهل الحكم ببراءة مساعديه رخصة للشرطة بالقتل والقمع؟..
ثم.. هل مؤبد مبارك متعلق بقتل المتظاهرين أم بصفقة الغاز الفاضحة مع إسرائيل أم بهما معا؟.. ما معنى إبراء ذمة مبارك وأولاده بإسقاط الدعوى الجنائية ضدهم بالفساد لمضي المدة، وهل تسقط المدة قانونيا رغم أن أحدا لم يكن يجرؤ على تحريك قضايا ضدهم في الوقت الذي كانوا يهيمنون فيه على مقدرات البلد؟.. وما معنى انقضاء الدعوى بالنسبة لحسين سالم هو الآخر؟.. هل يعني ذلك أن ملاحقته في إسبانيا وطلب استرداده من هناك كانا ضجة بلا سند؟.. وما هو الآن مصيرهما؟.. وما مصير أموالنا المنهوبة؟.. وهل يراد لهذا الحكم أن يكون تبرئة لعصر مبارك كله من جرائم الفساد واستغلال النفوذ؟..
ثم.. لماذا غير معظم شهود الإثبات شهاداتهم التي أدلوا بها أمام النيابة عندما ظهروا في المحكمة؟.. إذا ما كانت النيابة العامة قد ذكرت في مرافعتها أمام المحكمة أن أجهزة المخابرات العامة والأمن قد امتنعت عن تقديم الأدلة التي تثبت جرائم المتهمين، فلماذا لم يقدم المسؤولون عن هذه الأجهزة جميعا (بمن فيهم رئيس المخابرات العامة) إلى المحاكمة بتهمة تضليل وتعطيل العدالة؟.. لماذا جرت التحقيقات في هذه القضية في تعتيم تام؟.. لماذا منعت النيابة العامة محامي الضحايا وممثلي نقابة المحامين والجمعيات الحقوقية من حضور التحقيقات؟.. لماذا حجبت عنهم المعلومات المتعلقة بمواعيد التحقيق، وبأسماء الشهود الذين تم استدعاؤهم، وبالأسباب وراء استدعاء شهود بعينهم واستبعاد آخرين؟.. ما مدى مسؤولية النائب العام عن تقديم قضية مهترئة على هذا النحو إلى المحاكمة؟.. كيف تسند مسؤولية هذه القضية الكبرى المتهم فيها رأس الدولة السابق إلى نائب عام عينه رأس الدولة السابق؟.. كيف يكون محامي النظام البائد هو محامي الثورة على النظام؟..
ثم.. لماذا أتلفت الأدلة التي تدين المتهمين؟.. لماذا كانت أشرطة التسجيلات التي قدمها التليفزيون المصري لأحداث الثورة تالفة؟.. ولماذا لم يقدم المسؤولون عن إتلافها هم الآخرون إلى المحاكمة؟.. ما هي نتائج تحقيقات فرم السيديهات والمستندات التي كانت بحوزة مباحث أمن الدولة؟.. لماذا بقى مدير مباحث أمن الدولة في موقعه مدة أثارت الشكوك والريب؟.. ولماذا أقيل شاهد الإثبات التاسع اللواء حسني عبدالحميد من الشرطة؟.. ما هو دور محمود وجدي وزير داخلية شفيق ثم العيسوي الوزير الذي تلاه، ومن بعدهما عصام شرف، وقبلهم وبعدهم المجلس العسكري حاكم البلاد الأعلى؟.. ما هي مسؤوليتهم جميعا عن فقدان الأدلة، وعن طبخ القضية على هذا النحو، وعن تصوير الأمر للشعب وللعالم كما لو كنا فعلا نقدم مبارك ونظامه للمحاكمة؟..
ثم.. لماذا لم تسمح المحكمة لمحامي الضحايا بسؤال المشير وسؤال عمر سليمان وسؤال وجدي والعيسوي عندما أدلوا بشهاداتهم أمام المحكمة؟.. ولماذا لم تصرح المحكمة بنشر نص هذه الشهادات عند الإدلاء بها؟.. ما هذا التعارض الفج بين التقديم لحكم المحكمة بخطبة اشتعلت بحماسة ثورية جوفاء (ولو أنها كانت ركيكة في لغتها ومبناها) وبين تسامح الحكم ذاته إزاء المتهمين؟.. هل هذه المقدمة تعني أن القاضي لم يكن مقتنعا بالحكم؟… هل أصبح من أعراف القضاء أن يتبارى القضاة في التقديم لأحكامهم بحصة في الإنشاء؟.. هل القاضي محق في حكمه ببراءة مساعدي وزير الداخلية طالما أنه لم تتوافر لديه الأدلة على إدانتهم، أم أنه كان يتوجب عليه أن يتخذ إجراء آخر بأن يرد القضية إلى النيابة العامة أو يجري تحقيقا بواسطة محكمته ذاتها؟.. ما الذي يسعفه به القانون عندئذ حتى تقام العدالة؟.. هل يمكن أن تصل بنا السخرية السوداء حد أن نصف هذه المحاكمة الهزلية بأنها محاكمة القرن؟.. هل ظلم القاضي نفسه بتولي القضية؟.. هل التزم بنصوص القانون التزاما خرج به على روح القانون؟.. هل الحكم الذي صدر حكم بالقانون فعلا، أم أنه حكم سياسي روعيت فيه مواءمات وتأثر بضغوط؟.. هل الحكم عنوان على تصدع مؤسسة القضاء بعد عناوين عديدة سابقة آخرها الإفراج عن المتهمين الأمريكيين في قضية التمويل الأجنبي؟.. لماذا سارعت الجماهير في قاعة المحكمة بإطلاق هتافها التلقائي: الشعب يريد تطهير القضاء؟.. هل تقاعس مجلس القضاء الأعلى بالفعل في تطهير القضاء؟.. هل سقطت دولة القانون أم سقط القائمون على القانون في النهاية؟..
ثم.. هل كان الخطأ الأساسي في محاكمة مبارك وعصابته هو أنه لم تجر له محاكمة ثورية؟.. هل فرط الشعب في حقه وفي حق دماء الشهداء والمصابين عندما قبل بمحاكمة العصابة محاكمة جنائية، أم أنه أفرط في سذاجته عندما التزم بمبادئ الحضارة وأصول القانون؟.. هل آن الأوان لمصر أن تصدق الآن على قانون المحكمة الجنائية الدولية ويقدم مبارك إليها بتهمة القتل الجماعي؟.. لماذا لم يقدم الطاغية إلى المحاكمة بتهمة الحنث باليمين الدستورية التي أقسم فيها بالله العظيم عندما تولى السلطة أن يحافظ مخلصاً على النظام الجمهوري، وأقسم بالله العظيم أن يحترم الدستور والقانون، وأقسم بالله العظيم أن يرعي مصالح الشعب رعاية كاملة، وأقسم بالله العظيم أن يحافظ على استقلال الوطن وسلامة أراضيه، وخان هذا كله؟.. وإذا لم يكن هناك قانون توجه بموجبه هذه التهمة، فلماذا لم يطلب المجلس العسكري من ترزيته المحترفين إصدار مثل هذا القانون؟..
وأخيرا، أليس حكم قضية مبارك نهاية منطقية لتلاعب العسكر بمقدرات البلد منذ اقتنصوا الحكم؟.. أليس حكم قضية مبارك مجرد حلقة من سلسلة عبثهم بالدستور والقانون؟.. ألم يعبثوا من قبل بالتعديلات الدستورية، وبالاستفتاء عليها، وبإصدار إعلان دستورى دون استفتاء، وبمحاكمة المدنيين أمام محاكمهم العسكرية، وبالتحقيقات في مذابح ماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء، وبقضية التمويل الأجنبي؟.. ثم ألم يعبثوا باللجنة العليا للانتخابات الرئاسية فحصنوا قراراتها من الطعن، ووقفوا صامتين أمام ازدرائها لقانون العزل السياسي وسماحها لشفيق بدخول انتخابات الرئاسة؟..
وماذا نحن فاعلون الآن بهذه الانتخابات؟.. ما الذي سيفعله الإخوان المسلمون بالذات، وهم الذين باركوا عبث المجلس العسكري وشاركوا فيه بالصمت؟.. كيف تصل الانتهازية بالإخوان لأن يصرح أحد أقطابهم بأنه من الضرورى أن يستغلوا فرصة صدور حكم مبارك للفوز بالانتخابات؟.. هل قدم القضاء للدكتور مرسي الحكم على طبق من ذهب فازداد غروراً وخيلاء ظنا منه أنه امتطى الفرس الذي سيدخل به قصر الرئاسة، أم أن الإخوان سيعلنون اليوم تخليهم عن طموحاتهم ومطامعهم وانضمامهم إلى مد الثورة الثانية، وعدم اعترافهم بانتخابات زائفة لا قصد منها سوى استنساخ عهـد الاستبداد والفساد وتنصيب فريقه شفيق خلفا لمبارك؟..
أنا لا أعترف بهذه الانتخابات التي تجري في ظل مجلس مبارك العسكري، بعد كل ما جرى في جولتها الأولى من خروقات، وأدعو إخوتي في الوطن إلى عدم الذهاب إلى صناديق الانتخاب