د. مثنى عبدالله
باحث سياسي عراقي
تسمّرَ العراقيون ومعهم الكثير من المشاهدين في الوطن العربي والعالم في أماكنهم فاغري الافواه، أمام شاشات التلفاز وهم يشاهدون مقطعا صغيرا من مسرحية العدالة، التي تُعرض على أرض العراق الديمقراطي بكل محافظاته ومدنه وقراه ,منذ أنبلاج فجر الحرية الكاذب في العام 2003 وحتى اليوم. فلقد أنفلت الغضب في نفس عضو مجلس محافظة بغداد وأخرين معه كانوا قد أُحضروا أمام عدسات التصوير، كي يكونوا مجرد قرابين تستعرض بهم أجهزة السلطات الامنية جبروت المثقاب الكهربائي وعمليات الاغتصاب، في صنع أعترافات زائفة يتم أنتزاعها من الابرياء في السجون السرية والعلنية، كي تطأ أقدام السلطة الطائفية ظهر الحقيقة وتطل على العالم بلباس الديمقراطية وسيادة القانون. لقد كانت أكثر المشاهد قسوة في تلك الحادثة هي حالة اليأس التي أنتابت المتهمين، فلم يجدوا غير رؤوسهم وأجسادهم كي يلطموها، وسط هذا الصمت المخجل الذي بات يلف القضية العراقية من قبل المجتمع الدولي ومنظماته القانونية والانسانية والحقوقية، حتى بتنا لانسمع الا مُجرد بيانات خجولة خافتة الوهج والمعاني، أمام مأساة أنسانية تستهدف شعب كامل، سُرق بدعاوى زائفة منذ أكثر من تسع سنوات، بينما تقوم الدنيا ولا تقعد على حكومات أخرى في المنطقة وخارجها، لأن مواطنيها يتعرضون لإضطهاد أقل بكثير مما يتعرض له أبناء العراق.
قولوا لنا مَن من شعوب المنطقة دفع أكثر من مليون ونصف المليون شهيد، وبات لديه أكثر من خمسة ملايين يتيم، ومايزيد عن ثلاثة ملايين أرملة، وتعرض لهجرة وتهجير هي الاكبر في التاريخ البشري بعد هجرة الفلسطينين في العام 1948 حسب التقرير الصادر عن منظمة شؤون اللاجئين الدولية؟ بل أخبرونا عن أية دولة هي الثانية في أنتاج النفط، ولازال فيها من يبحث عن لقمة خبزه وكسوته في مكبات النفايات، بينما تبيع بعض الامهات أجسادهن وأجساد أطفالهن الى السماسرة في رحلة البحث عن الامن الغذائي، في حين تندلق كروش وحسابات المُنتخَبين ديمقراطيا بملايين الدولارات المسروقة من المال العام؟ ومع كل ذلك لانسمع من يقول للمالكي ورهطه عليكم الرحيل الآن وليس غدا، كما حصل مع غيرهم في دول أخرى شقيقة، والسبب في ذلك هو أن القائمين على السلطة في العراق هم نتاج الارادة الدولية، التي لايمكن بأي حال من الاحوال أن تعترف بفشلها، وتقر بأن من جاءت بهم الى السلطة هم مجاميع من اللصوص الذين يتلذذون بمعاناة شعبهم. بل أن كل المظاهر اللا أنسانية التي نراها اليوم في العراق والتي تقوم بها السلطات الامنية والسياسية والقضائية أيضا، ماهي ألا محاكاة واقعية لما تعرّض له شعبنا على يد القوات الامريكية، التي عقدت جلسات محاكمات صورية للجنود الذين أرتكبوا أبشع جرائم القتل والاغتصاب بحق الابرياء، ثم يتم النطق بالحكم أما بالسجن لمدة ثلاثة أشهر، أو أطلاق سراح المجرم بحجة الضغوط النفسية التي كان يتعرض لها في العراق، وكأن العراقيين هم الذين أحتلوا الولايات المتحدة وليس العكس. كما أن غالبية منتسبي الاجهزة الامنية العراقية التي أُنشئت برعاية المحتل ووفق عقيدته الامنية، كانوا قد تلقوا تدريباتهم على يد المدربين الامريكان في دورات متخصصة داخل العراق أو في دول حلف الناتو، أو في بعض الاقطار العربية التي كانت أجهزتها الامنية وسجونها السرية قد حازت على الاعجاب الامريكي في طُرق أنتزاع الاعترافات، مما جعل المخابرات المركزية ترسل الكثير من المتهمين اليهم لانتزاع الاعترافات منهم. لقد أثارت حادثة المؤتمر الصحفي الخاص بعرض أعترافات عضو مجلس محافطة بغداد والمتهمين الاخرين، أثارت في ذاكرة العراقيين حوادث أخرى أكدت جميعها على عدم نزاهة التحقيقات التي تجري، حيث كانت سطوة الانتقام الطائفي واضحة المعالم في حادثة (النخيب) حين تم أقتياد بعض من الصقت بهم التهم من قبل السلطات الرسمية، وتم التجوال بهم في شوارع محافظة أخرى في محاولة بائسة لاثارة النعرات الطائفية، كما تم أختراع حادثة (عرس الدجيل) التي صرح العديد من النواب بأنها تمثيلية هدفها أستدرار الدعم الطائفي لبعض أركان السلطة، وقبلها تم التغطية على حادثة مقتل ما يقارب الف شخص في منطقة (الزرقة) في الفرات الاوسط، وأنتهاكات أخرى حدثت فيما سُمي (صولة الفرسان) في جنوب العراق التي قادها المالكي، لتأتي الحادثة الاخيرة كحلقة أخرى في سلسلة الانتهاكات التي يتعرض لها شعبنا.
وأذا كُنا نعترف تماما بأن ليس من حقنا أن نقر بتجريم هذا وتبرئة ذاك ممن تعرضهم السلطات على وسائل الاعلام، لأن ذلك واجب القضاء حصرا وليس غيره، فإن من حقنا كمواطنين عراقيين أن نبين التجاوزات الحاصلة على الحقوق الانسانية للفرد والمجتمع، وأن نؤشرالتلاعب الفاضح بالتحقيقات التي تجري على أيدي لجان تحقيقية تميل الى السلطات التنفيذية، وتبتعد تماما عن رقابة السلطة القضائية، بل أنها باتت هراوة بيد السلطة تقتص بها من كل الذين ينتقدون ويعارضون العملية السياسية. ولايمكن بأي حال من الاحوال أن نُخلي ذمة السلطة القضائية التي راح البعض منها يصادق فورا على كل مايصله من لجان التحقيق، ويبرىء في ساعة ونصف من كانوا يقولون عنه أرهابي ومطلوب للقضاء وصدر بحقه الكثير من قرارات الحكم، فقط لأن السلطة التنفيذية عقدت معهُ صفقة سياسية. حتى أن الكثير من النواب باتوا يتحدثون علنا كيف أنهم أبطلوا قرارات للقضاء ضد أشخاص معروفين، وكيف أنهم فعّلوا قرارات إدانة وتجريم ضد أخرين، بل أن تدخّل المالكي شخصيا وأصداره أمرا بتشكيل لجنة لاعادة التحقيق مع عضو مجلس محافظة بغداد، في وقت صمتت فيه السلطة القضائية عن الحادث، أنما يؤكد تماما بأن لا فصل بين السلطات في العراق الديمقراطي وأن السياسة هي من يسوق القضاء فيه، وهذا هو حال النموذج الذي أرادته الولايات المتحدة الامريكية كي يشع ديمقراطية على دول المنطقة، فأذا به كيانا عاد ليعيش أهله في ظل قوانين وأحكام القرون الوسطى، حيث سلطاته خليط من سلطات دينية وقبلية وطائفية، لها أذرع هلامية قادرة على التمدد في أية ناحية توجد فيها مصالح ضيقة لهم ولحاشيتهم. لقد باتت الدول التي فيها سلطات تحترم شعوبها تتبارى في أيجاد أجهزة أمنية تزيد من هامش تبرئة المواطن، وتحاول جاهدة دراسة الظروف الموضوعية والذاتية التي تحيط بظروف الجريمة، كي لايأتي العقاب على المجرم بمستوى أكثر من الفعل الجرمي. كما أن الشعور العالي بأن هذه الاجهزة هي في خدمة المواطن والحفاظ على سلامته، دفعهم الى الجد والاجتهاد في سبيل الوصول الى حالة الكشف الاستباقي عن الافعال الجرمية، بينما تنحدر الاجهزة الامنية العراقية الى حالة التجريم الاستباقي لمواطنين أبرياء يجري أنتزاع أعترافات منهم تحت التعذيب أو الابتزاز، الذي يدر مبالغ مالية عالية جدا على من يعمل في هذا المسلك، حتى باتت قصص بيع وشراء القضايا والمتهمين داخل المعتقلات والسجون معروفة للقاصي والداني، وأن قساوة المظلومية التي ظهرت علنا في الحادثة الاخيرة، إنما هي تعبير واضح عن حجم الكوارث الانسانية الكبرى التي تختفي خلف أسوار السجون في العراق، وبذلك اصبحت المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتق شعبنا وطلائعه من المثقفين والكتاب الوطنيين ورموزه الاجتماعية، تفرض على الجميع مسؤولية أعظم وصيّغ رد على الجريمة بفعل أكبر من بيانات الاستنكار والشجب، بل ضرورة الذهاب الى الاعتصامات في الشوارع والساحات العامة، وتنظيم الاضرابات التي ستدك عروش الظالمين في المنطقة الخضراء.
الا يستحق الابرياء أن نخرج تضامنا معهم في مسيرات مليونية راجلة من كل محافظات العراق؟ بل ألا يستحق أن نتضامن مع أنفسنا أيضا كشعب يتعرض للابادة اليومية؟
القدس العربي