د/يوسف مكي
قبل أسبوعين من هذا التاريخ، نشرنا حديثاً على صدر هذه الصحيفة تحت عنوان “على هامش الانتخابات الرئاسية المصرية” . وحينها كانت الحملة الانتخابية بين ثلاثة عشر مرشحاً، لاتزال في أوج احتدامها . وخلصت تلك القراءة إلى أن التنافس يجري بين ثلاثة خطوط سياسية: تيار الإسلام السياسي، وتيار المؤسسة العسكرية، وتيار الدولة المدنية، ويضم القوميين والليبراليين واليساريين، والقوى الشبابية التي قادت الثورة .
أكدت نتائج المرحلة الأولى من الانتخابات صحة هذه القراءة، رغم أنها حملت مفاجآت كثيرة لم تكن في الحسبان . فقد نال ممثل الإخوان المسلمين، محمد مرسي الترتيب الأول، وممثل المؤسسة العسكرية، أحمد شفيق حصل على الترتيب الثاني، وجاء ممثل التيار القومي والدولة المدنية حمدين صباحي بالترتيب الثالث، والنتيجة أن التيارات الثلاثة مجتمعة، أكدت حضورها السياسي بالمجتمع المصري .
لكن ما لم يكن في الحسبان هو التقارب الكبير في قوة حضور هذه التيارات، الذي عكسته النتائج الأولية للانتخابات الرئاسية، رغم الفوارق الكبيرة في توجهاتها ورؤاها الفكرية والسياسية، فنسبة الفرق بين مرشح الإخوان المسلمين الدكتور مرسي، ومرشح المؤسسة العسكرية الفريق شفيق لم تتجاوز 8 .0% . وتلك مفاجأة من العيار الثقيل، بالنسبة إلى المراقبين والمتابعين للمشهد السياسي في مصر . فالإخوان المسلمون، أكدوا مراراً وتكراراً، قبل وأثناء الحملة الانتخابية، أنهم سيكتسحون صناديق الاقتراع، ويحسمون الموقف لمصلحتهم منذ الجولة الأولى، وأنه لن تكون هناك انتخابات إعادة . وجاءت النتائج مخيبة لآمالهم، حيث لم تتجاوز نسبة ما حصل عليه مرسي ال25% من أعداد المقترعين .
المفاجأة الأخرى، أن مرشح المؤسسة العسكرية، وآخر رئيس لحكومة مصرية في عهد الرئيس مبارك، الفريق أحمد شفيق جاء ترتيبه الثاني، وهو أمر لم يتوقعه أكثر الناس تفاؤلاً من أنصاره، خاصة بعد الحديث عن العزل السياسي لأقطاب النظام السابق، وصدور قرار بحرمان شفيق نفسه من الترشح بهذه الانتخابات، ووجود قضايا طعن معلقة بالمحكمة الدستورية عن ترشيحه للرئاسة .
ومن جهة أخرى، عوّل كثيرون على فوز عمرو موسى، وزير خارجية مصر الأسبق، والأمين العام لجامعة الدول العربية السابق الذي جاء ترتيبه الخامس بين المرشحين، في حين وضعه كثيرون في أعلى القائمة، ورجّحوا احتمال فوزه بهذه الانتخابات، بمعنى أننا هنا أمام مفاجأتين: صعود شفيق إلى المرتبة الثانية، وتراجع موسى إلى المرتبة الأخيرة، بين المرشحين الأماميين الخمسة .
المفاجأة الرابعة، أن الكثير من المراقبين والمتابعين للحملة الانتخابية، راهنوا على فوز الدكتور عبدالمنعم أبو الفتوح، كونه يمثل وسطاً بين الإسلاميين وأنصار الدولة المدنية . ولكن ترتيبه جاء الرابع في قائمة المرشحين، بعد أن وضعته أكثر التقديرات تشاؤماً بالترتيب الثاني، ولكن النتائج جاءت بما لا تشتهي السفن .
أما المفاجأة الأكبر، فهي صعود نجم حمدين صباحي، ووصوله إلى الترتيب الثالث، متخطياً في ذلك عمرو موسى وعبدالمنعم أبو الفتوح . وقد وصفه الإعلام المصري بالحصان الأسود، بل إن تقريراً خاصاً لفريق الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر وضع صباحي بالترتيب الثاني، مشيراً إلى تزوير وطعون انتخابية حرمته من الوصول إلى موقع التنافس مع الترتيب الأول .
المفاجأة في عدم تقدم صباحي إلى الترتيب الأول أو الثاني لم يكن سببه التقليل من شأن تاريخه النضالي والسياسي أو الشك في أهليته للموقع الأمامي، ولكن نتيجة غياب المؤسسة السياسية القوية التي تقف خلفه، فالحزب الذي يرأسه (الكرامة)، قياساً إلى غيره من الأحزاب السياسية، هو حزب صغير، تأسس بعد انشقاق عدد من القيادات الشابة، بقيادته شخصياً، عن الحزب العربي الناصري، منذ أكثر من عقد . لكنه لم يحقق حضوراً سياسياً قوياً قبل انتفاضة 25 يناير 2011 . وقد انتخب صباحي لعدة دورات في مجلس الشعب نائباً عن مقر ولادته محافظ كفر الشيخ، وبقي نائباً حتى ما قبل الدورة الانتخابية الأخيرة التي عقدت بالعهد السابق، والتي حامت شكوك كبيرة على نتائجها .
لم تحظ حملة صباحي، بما حظيت به غيرها، منذ بداية الحملة الانتخابية من تغطية إعلامية واسعة، وذلك يعود إلى افتقارها للمال، وأيضاً لموقف الكثير من أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة التي رأت في برنامجه المستقل، عودة للطرح القومي العربي الذي ساد بالخمسينات والستينات من القرن المنصرم . وجاءت نتائج الانتخابات لتؤكد الحضور القوي، لهذا التيار بمصر .
تضرر الدكتور مرسي كثيراً، من ممارسات الإخوان المسلمين، بعد هيمنتهم على البرلمان المصري، حيث برزت روح الاستعلاء والإقصاء، وإعادة إنتاج النظام القديم بأقنعة دينية . وقد انشغل أعضاء المجلس بأمور هامشية، لا تشكل اهتماماً لدى المصريين، مغيبين قضايا التنمية ومكافحة الفساد، والتخلص من تركة النظام السابق، من عجز اقتصادي وإداري وتغوّل للبيروقراطية وعجز عن مقابلة استحقاقات الناس .
كما أن الكثير من المصريين، لم يقبلوا بهيمنة حركة الإخوان المسلمين على المراكز التشريعية والتنفيذية في آن معاً . فقد رأوا أن الهيمنة على مجلس الشعب والحكومة ورئاسة الجمهورية جميعاً، ستعيد النظام الديكتاتوري مجدداً، وستسهل على الإخوان صياغة الدستور ولوائح الدولة وقوانينها بالطريقة التي تضمن لهم سيطرة مطلقة على الحكم، وأن هذه الهيمنة هي وجه آخر للاستبداد التي ناضل المصريون وأشعلوا ثورتهم للتخلص منها، ولذلك تأتي حالة هذه النتائج ضمن واقع موضوعي صحيح .
أما بالنسبة إلى عبدالمنعم أبو الفتوح، فقد أضرّ به كثيراً ما أشيع عن تبعيته لتيار الإسلام السياسي . فالمؤيدون للإخوان المسلمين لم يجدوا مبرراً لانتخابه، طالما أن هناك شخصاً آخر مرشحاً من قبل الحركة، هو محمد مرسي . أما خصومهم فحسبوه على الإخوان وامتنعوا عن التصويت له . وهكذا كان ضحية إشاعة تبعيته للإسلام السياسي . وفي هذا السياق أيضاً، يذكر أن المناظرة التي جرت بينه وبين عمرو موسى أضرت بهما معاً، حيث تبادلا الهجوم وتراشق التهم، وكشف كل منهما عن سوءات الآخر، والنتيجة أن كليهما خسر المعركة الانتخابية، وكانت تلك هي تجربة المناظرات الوحيدة التي تمت بالحملة الانتخابية.
وبديهي أن تتجه الأصوات التي كان من الممكن أن تتجه إلى موسى، بعد فشله في المناظرة، إلى شفيق كونه الأقرب سياسياً وفكرياً، وتاريخياً لرؤيته . وهكذا كسب شفيق أغلبية الأصوات التي من المفترض أن تذهب إلى عمرو موسى، إضافة إلى الأصوات القريبة من المؤسسة العسكرية التي ينتمي إليها شفيق . تلك فرضية لا نجزم بصحتها ولكنها مطروحة للنقاش، على أية حال . ويبقى علينا أن نواصل قراءتنا للمشهد الانتخابي، حتى نهايته في قراءات أخرى . .