د. مثنى عبدالله
باحث سياسي عراقي
منذ بدايات الحركة الكردية المسلحة وحتى اليوم تبرهن الزعامات فيها على أن بيع المصالح لشراء التأييد هي ا ستراتيجيتهم الاولى في العمل السياسي. فهم على أستعداد غريب للتحالف حتى مع الشيطان في سبيل تحقيق منفعة سياسية، والتاريخ القريب في العراق يثبت ذلك. فخارطة تحالفاتهم أمتدت من الشرق الى الغرب، ووضعوا أيديهم مع كل القوى الدولية والاقليمية، وقبلوا أن يكونوا لعبة في موازنات رسم المصالح التي غالبا ماكانوا فيها هم الخاسرين، لأنهم لم يكونوا سوى حركة لاتملك أوراق ضغط في اللعبة الدولية كي تفرض مصالحها، وعندما تتفق أرادات اللاعبين الكبار يسقط الطارئون الصغار. لذلك سقطوا من حسابات الاتحاد السوفييتي عندما تحسنت علاقته بالعراق وسقطوا من حسابات شاه أيران في أتفاقية الجزائر في العام 1975 مع العراق. وصمت الغرب عن الحديث عنهم عندما كانت علاقته جيدة مع العراق الذي كان دولة يحسب لها الف حساب. لكن ذلك لايعني أن الخطأ هو في سياسات الآخرين تجاه الاكراد فحسب، بل الخطيئة في سياسات الزعامات الكردية تجاه الاكراد أنفسهم أيضا، وتجاه الاوطان التي هم جزء أساسي منها، لانهم أعتمدوا على العامل الخارجي في شأن داخلي بينهم وبين سلطات بلدهم وهو جرم كبير، فوضعوا مبررا بيد السلطات لمحاربتهم.
لقد أثارت العلاقات الكردية التركية مؤخرا الكثير من التساؤلات في الاوساط السياسية، خاصة بعد زيارة مسعود البرزاني الاخيرة الى تركيا، وتصريحاته فيها التي كانت من العيار الثقيل، والتي حاول فيها القاء القضية العراقية الى الحضن التركي، على الرغم من أنه لاعب رئيسي فيها. وهو ما يثير الدهشة والاستغراب حقا، لأن الزعامات الكردية دائما ما كانت تبرر لجوءها السابق الى الخارج ضد الوطن بحجة أن الانظمة كانت دكتاتورية، لكنهم اليوم يمارسون نفس الدور ضد الوطن باللجوء الى الخارج، على الرغم من أنهم يصفون العملية السياسية التي تحكم العراق بأنها ديمقراطية، والوقائع على الارض تشير الى أنهم يحكمون ليس شمال العراق فقط بل العراق كله من خلال مناصبهم السيادية فيه، فلهم منصب الرئيس وستة مناصب وزارية أخرى من بينها وزارة الخارجية. أذن ماهو المدى المفتوح من رغبات الزعامات الكردية على المستقبل في ضوء التحالف مع الاتراك؟ وللاجابة على هذا التساؤل لابد من الاشارة الى أن المصلحة التركية الكردية هي ليست كما كانت من قبل. فالموقف التركي من القضية الكردية تحرك نحو سلوك براغماتي. فحجم التبادل التجاري مع الاكراد بات أكثر من أربعة مليارات دولار، والنسبة الاكبر من جنسيات الشركات العاملة في شمال العراق هي تركية، كما أن النفط والغاز المستخرج من تلك المنطقة يلبي بعض الحاجة التركية. أما فيما يخص العامل السياسي، فالقيادة التركية تجد اليوم نفسها مضطرة لصنع لعبة سياسية على مقاساتها التاريخية والجغرافية، أخذة بنظر الاعتبار التطورات الحالية في المنطقة، التي أنتقلت فيها الكثير من حالات الصداقة الى حالة العداء والعكس صحيح أيضا. وأذا كانت أيران تُحفّز وتقود مايسمى (التيارالسياسي الشيعي) في المنطقة، فلماذا لايقوم الاتراك بنفس الدور لتشكيل (تيارسياسي سني) يشمل الاكراد بأعتبارهم سنة. وهذا هو مايفكر فيه القادة الاتراك الذين يريدون دورا لهم فيما يسمى عملية إعادة التشكيل التي تشهدها المنطقة. وهو مطلب غربي كذلك لأنهم قوة مهمة في حلف الناتو، والوجود التركي الفاعل في المنطقة يغني الحلف عن التدخلات المستفزة لشعوب المنطقة، بينما تكون مقبولة أن جاءت عن طريق تركيا المسلمة. أما بالنسبة لزعامات أكراد العراق فأنهم باتوا ينظرون الى تركيا على أنها تخلصت بعض الشيء من حكم العسكر الذي يكن العداء للكرد، وأن هنالك حراكا سياسيا داخل تركيا لشرعنة الحركة القومية الكردية ,وأن البرلمان التركي يتواجد فيه سبعون نائبا كرديا عن الحزب الحاكم، منهم رئيس البرلمان وزعيم حزب المعارضة أيضا، كما أن القوة العسكرية التركية لايمكن مجابهتنا من قبل الاكراد، وأن الدعم الغربي لهم قد يتوقف على علاقتهم بتركيا بأعتبارها عضوا مهما في حلف الناتو. كما أن النقطة الابرز التي تحوم في أذهان زعماء الاكراد في العراق هي تولي قيادة الحركة الكردية في المنطقة، وكي يتم لهم ذلك لا بد من وجود ضامن أقليمي يدعمهم في هذا الاتجاه وهي تركيا، لذلك كانت دعوة مسعود البارزاني لحزب العمال التركي بالقاء السلاح والتباحث مع الحكومة التركية.
أن الزعامات الكردية باتت اليوم في حيرة من أمرها. فأعلان الاستقلال يخيفهم لأن شبح العزلة سيطارد كيانهم ويفرض عليهم أستحقاقات لكل الدول المحيطة بهم، وبالتالي ستبقى سياستهم محكومة بعوامل الضغط الخارجي الكاره لكيانهم، كما أن التفريط بالعوائد المالية المخصصة لهم من ميزانية العراق تغريهم بعدم المجازفة بالتخلي عنها، خاصة وأنهم يسعون بهذه العوائد لصناعة قوة ناعمة، أقتصادية وعمرانية وأجتماعية وثقافية قادرة على جذب الاكراد في الدول المحيطة بهم، وبالتالي صناعة زعامة سياسية لأنفسهم على أكراد المنطقة كلها، وقد لاحظنا ذلك عندما أعلن مسعود البارزاني أستعداده لتقديم كل أشكال الدعم والمساندة لاكراد سوريا في مؤتمر أربيل الاخير. وقد أنتبه الاتراك الى هذه الهواجس والطموحات من الطرف الكردي العراقي فطلبوا من مسعود بارزاني تكفير العمليات المسلحة لحزب العمال التركي مقابل النفخ في زعامته وتنصيبه زعيما لاكراد تركيا وسوريا أيضا، خاصة وأنهم يعرفون جيدا أن جلال الطالباني محسوب على الجناح الايراني في الطرف الكردي، وأن مسعود مهيأ كي يكون الطرف الكردي المحسوب عليهم في لعبة التوازنات الايرانية التركية، وقد فعل الرجل ما طلبوا منه عندما أعلن في تركيا بأن حمل السلاح من قبل الاكراد لم يأت لهم بأية مصالح طوال العقود الماضية، داعيا الى الحوار الذي هو الطريق الاصوب لتحقيق المصالح على حد زعمه. لقد أمن الاتراك بالمبدأ السياسي القائل، عندما لاتستطيع مواجهة التحدي فأن خير وسيلة لتفكيكه هو مسايرته وأحتواء قيادته تمهيدا للامساك بزمام توجهاته وتغيير شعاراته وأهدافه، وأن من مصلحة الاتراك التخلص من القضية الكردية التي كانت أحد العوامل التي أثرت على حظوظهم في دخول الاتحاد الاوروبي، كما عرقلت النمو الاقتصادي الذي يطمحون اليه، ولازالت تقف عائقا بينهم وبين أستغلال مناطق الجنوب التركي لجعله سلة غذاء للمنطقة ككل، لما تحتويه من مقومات زراعية هائلة تمنح الاقتصاد التركي قفزات عالية. لذا فأن الاتراك اليوم يفكرون في مصالحة تاريخية مع الاكراد الذي سيكون كيانهم ركنا أساسيا من أركان (العثمانية الجديدة) التي ستجمع أكراد العراق وسوريا الى الدولة التركية في نظام فدرالي، فهم لايريدون تفعيل القضية الكردية خارج إطار الدولة التركية، وهو أمر حساس جدا بالنسبة لهم لأنهم يتصورون قيام كيان كردي خارج إطارهم إنما هو سيكون خنجرا في خاصرتهم يستخدمه الاخرون ضدهم. لذلك هم يسعون لتشكيل أيديولوجية وطنية يكون الاكراد جزءا منها في دولة وطنية تركية. فهل سنرى كيانا كرديا يرتبط فدراليا بالدولة التركية قريبا، يحقق لهم صفر مشاكل في الداخل تمهيدا لصفر مشاكل في الخارج؟
القدس العربي