عبدالله السويجي
ابتليت الإنسانية خلال تاريخها بحروب دينية عقائدية مذهبية، بين دين ودين، وبين مذهب ومذهب، وبين طائفة وطائفة، وفي كل الحالات كان يعتقد كل طرف بصواب معتقده وإيمانه واجتهاده، حتى يصل إلى تكفير الآخر ثم تصفيته جسدياً، بينما أمرت الأديان جميعها بالحوار السلمي وتقديم البراهين والحجج . ويعلمنا التاريخ أن تلك الحروب الدينية لم تكن (لوجه الله) أو في سبيله، وإنما كان بعضها يتخفّى وراء أهداف شخصية وسياسية واقتصادية، أو خلف أطماع استعمارية، ولم تقتصر هذه الحروب على دولة بعينها أو شعب معيّن أو قارة محدّدة، وإنما انتشرت في كل قارات الكرة الأرضية، وما يميز الحروب الدينية هو عنفها وبطشها، ووضع الإنسان نفسه مكان (الله) في التعذيب أو العفو .
تقول الدراسات والموسوعات أنه راح ضحية هذه الحروب عشرات الملايين من البشر بين قتيل وجريح، ودُمّرت إنجازات إنسانية كثيرة . فقد راح ضحية الحروب الدينية التي شهدتها فرنسا ما بين عامي 1560-1598 ما بين 2-4 ملايين نسمة، وراح ضحية الحروب الدينية التي اندلعت في ألمانيا في الفترة من 1618-1648 ما بين 3-8 ملايين نسمة، أما حرب البوسنة الدينية التي اندلعت في الفترة ما بين 1941-1945 فقد قتل فيها أكثر من 400 ألف صربي أرثوذوكسي، ونحو 35 ألف يهودي ونحو 25 ألف غجري، من سكانها الأصليين، أما حصيلة حرب البوسنة من سنة 1992-1995 فقد كانت 278 ألف قتيل، وفي إسبانيا نشبت حرب أهلية بدوافع سياسية ودينية في الفترة من 1936-1939 راح ضحيتها ما بين 360 ألفاً إلى مليون قتيل، كما اندلعت حروب دينية في إفريقيا حصدت الآلاف ولا تزال، وكذلك الأمر في الباكستان والهند وأفغانستان . وفي بداية القرن العاشر انطلقت حرب سُمّيت بالحرب الصليبية، حيث أطلق بابا النصارى أوربان الثاني دعوته لبدء الحملات الصليبية على البلدان الإسلامية الواقعة شرق البحر الأبيض المتوسط بغرض الاستيلاء على بيت المقدس، وبلغ عدد القتلى من المسلمين في ساحات الأقصى وطرقات المدينة نحو سبعين ألفاً .
وقال الجنرال الفرنسي غورو عندما دخل دمشق منتصراً العام 1920 ووقف عند قبر صلاح الدين: “ها قد عدنا يا صلاح الدين” . واندلعت أيضاً حروب بين المسلمين بدأت بعد وفاة رسولنا (صلى الله عليه وسلم) واستمرت متقطعة حتى يومنا هذا، ويقال إنه راح ضحية حروب الردة نحو 21 ألف نسمة، إضافة إلى حروب أخرى بين الفرق والمذاهب، لا يزال يتردد صداها حت يومنا هذا .
انتهت الحروب الدينية في أوروبا بعد أن خضعت لدولة القانون، وانطلقت في العالم العربي حروب دينية وطائفية ومذهبية عديدة، فقد استمرت حرب أهلية دينية طاحنة في لبنان أكثر من 15 سنة (1975-1990)، راح ضحيتها الآلاف، ويعيش السودان منذ سنوات حرباً طائفية بين الشمال والجنوب، راح ضحيتها عشرات الآلاف من الطرفين وما زالت مستمرة، حيث تتداخل فيها المصالح السياسية بالاقتصادية بالاجتماعية . وفي المغرب العربي شهدت الجزائر( 1997-1998) معارك طاحنة بين الحكومة وفصائل متعددة وصفت بأنها تتبنى أفكار الإسلام السياسي، منها الجماعة الإسلامية المسلحة والجبهة الإسلامية للإنقاذ وفصائل أخرى انتهت بقتل الآلاف وارتكاب مذابح شنيعة، لأسباب سياسية ودينية، وكذلك الأمر يحدث في اليمن والعراق منذ سنوات .
لقد انطلق ما سُمي (الربيع العربي) للتخلص من الأنظمة الدكتاتورية، فإذا به يستبدل بتلك الأنظمة أخرى دينية ومتطرفة أحياناً، يحدث هذا بعد أن كان الشباب يتطلع إلى أنظمة ليبرالية وديمقراطية تتحقق فيها العدالة الاجتماعية وتسود دولة القانون، وأي نظام ديني لا بد أن يتخلله صراع مذهبي، بين المتشددين والسلفيين والوسطيين، ويتبع هذا الصراع أو يسير معه جنباً إلى جنب صراع عقائدي، كما يحدث في مصر بين الأقباط والمسلمين .
إن أشد وأخطر أنواع الصراع الطائفي هو ما يحدث حالياً بين المذهبين السني والشيعي، ويكاد يقسم كل دولة يزدهر فيها هذا الصراع، ويقسم العالم العربي إلى قسمين أو أكثر، والأخطر من هذا هو استعداد كثيرين، تحت وطأة التعصب الديني وإطلاق الأحكام التكفيرية للموت في سبيل هذا المذهب أو ذاك، وقد يتطرف كثيرون ويعتبرونه جهاداً في سبيل الله، بينما إذا اقتتل مسلمان وقُتلا فكلاهما في النار .
إن الصراع الطائفي أو الديني في الوطن العربي، لا يحدث بمعزل عن تدخلات خارجية، فبعض المذاهب المسيحية والإسلامية لديها مرجعيات خارجية تخضع لأوامرها وتوجيهاتها، وهذه المرجعيات لديها خطط استراتيجية لا تهدف فقط إلى الدفاع عن الديانات والطوائف والمذاهب، وإنما توظف الدين أحياناً لخدمة مصالحها السياسية، كما تفعل الحكومة الصهيونية التي تدعي أنها احتلت فلسطين بناء على وعد إلهي، بينما ترتبط بالدول الاستعمارية التي تحاول إعادة الحملات الاستعمارية والسيطرة على العالم بطرق شتى، منها أفكار تبدو حضارية وإنسانية مثل أفكار العولمة وثقافة السلام والتلاقح الثقافي، وهي في الواقع تتمركز خلف خطط لتوسيع مناطق نفوذها والسيطرة على الطاقة والموارد الطبيعية، وهذه الدول ذاتها هي التي تغذي الصراع الطائفي في العالم العربي، لتزرع فيه الفوضى والدمار والتشرذم تحت مسميات مختلفة، وحين يصل مستوى الأمن في تلك الدول أو المناطق إلى درجة يهدد فيها (السلم الدولي)، تتحرك عسكرياً للتدخل إلى جانب طرف من الأطراف، وهي مدركة أن الحرب الطائفية أو المذهبية أو الدينية لن تخمد إلا بعد عشرات السنين، كما حدث في فرنسا وألمانيا وإسبانيا، وكما يحدث في النيجر، وكما هو جار الآن في ليبيا والعراق ومصر وتونس ولبنان وسوريا، والمستفيد الأول والأخير من هذه الحروب والإنشغالات الداخلية هو الكيان الصهيوني .
إذا كانت الثورات الشعبية تنطلق لتحقيق العدالة الاجتماعية، فعلى الثورات الدينية أن تحقق ما هو أبعد من العدالة الاجتماعية، ولكن بطرق بعيدة عن الحرق والدم والدمار وخلق الضغينة والحقد بين الناس، وبعيداً عن التكفير الذي يتيح قتل الآخر بدم بارد متذرعاً بممارسة الجهاد .
العالم العربي ليس فقيراً بموارده، لكنه فقير في إدارتها، وليس فقيراً بإمكاناته البشرية ولكن بكيفية التعاطي معها وتوظيفها، والإدارة المتخلفة في كثير من الدول تؤدي إلى ارتفاع نسبة الفقر والجهل والأمية .
العالم العربي هو أرض رسالات سماوية تحمل قيماً ومبادئ عالية وراقية، والخطأ يكمن في كيفية إنجاز التناغم بين هذه الرسالات والقيم والمبادئ، ولهذا، فإن المطلوب من أصحاب القرار أن يستعينوا بالمفكرين والعلماء لدراسة صيغة حضارية وإنسانية للتعايش السلمي دينياً وعرقياً وسياسياً، ودعوة الجميع للتوقيع على ميثاق التعايش والسلام، ومن ثم التفرغ لمواجهة التحديات الخارجية التي تهدف إلى استنزاف خيرات الشعوب والقضاء على ما يؤلف بينها، والعبث بتاريخها واستقرارها، ودون ذلك، ستستمر الحروب الداخلية تؤججها الأيادي الخارجية التي تسعى جاهدة إلى تقسيم كل دولة عربية بحجة حقوق الأقليات واحترام الديانات .
العالم العربي الآن، وبعد هذه الفوضى الشرسة التي تهدد بالتقسيم والتدويل والدمار، في حاجة إلى كلمة عقل ومنطق ومحبة، وموقف تاريخي يحفظ دماء الناس وإنجازات الشعوب التاريخية والمدنية والإنسانية .
دار الخليج:الاثنين ,07/05/2012