د. محمد المجذوب
نشهد، منذ بداية العام 2011، تحركات أو اضطرابات أو انتفاضات في عدد من الأقطار العربية، تتّسم، كما يتراءى لمعظم الباحثين، بروح ثورية أو تمرّدية تنطوي على إرهاصات تطالب بتغيير الحكام والأنظمة، وكذلك بالحرية والمساواة والعدالة والديموقراطية بمعناها الواسع والعملي.
وحاولت الأنظمة الحاكمة، ومعظمها سادر وظالم، تطويق هذه التحركات والتظاهرات بجرعات مسكّنة، أو بوعود معسولة، أو بتشكيل لجان حوار، أو بإصدار قرارات سياسية واجتماعية، أو بإنشاء لجان لإعادة النظر في الدستور أو لوضع دستور جديد، وكل ذلك بغرض معالجة المطالب المرفوعة، وتهدئة النفوس الهائجة (…)
لكن ما هو المصطلح الصالح لتوصيف ما يحدث في بلادنا؟
إن إنجازات ما سُمّي بالربيع العربي لا تشكل ثورة، لكنها انطوت، في بعض الحالات، على انقلاب. والاختلاف الجوهري بين الثورة والانقلاب يكمن في نوع الهدف الذي يرمي إليه كل منهما.
فالثورة تهدف إلى تغيير الحكام وتغيير النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وإقامة نظام جديد يتولى رعايته حكام جدد. وتعتبر الثورة، وفقاً للمفهوم السائد في العلوم السياسية، انقلاباً على النظام السياسي القائم باستخدام العنف والقضاء على النخبة السياسية الحاكمة والمتحكمة، واستبدالها بنخب ثورية جديدة. والثورة الحقيقية يكون لها غالباً توجهات فكرية وثقافية جذرية تنأى عن الممارسات السابقة، وتشكل بداية جديدة للمجتمعات التي وقعت فيها الثورات.
أما الانقلاب فيقتصر غالباً على إسقاط الحكام وتغييرهم، أي استبدال حاكم بحاكم، والاستئثار بالسلطة دون التعرض لنظام الحكم. وكثيراً ما تتم الانقلابات سلمياً دون اللجوء إلى العنف وإراقة الدماء. وهذا يعني أن الثورة تنطلق من إرادة شعبية تهدف إلى تحقيق الصالح العام، في حين أن الانقلاب الذي يقوم به فرد أو جماعة سياسية أو عسكرية يسعى لتحقيق مآرب هذا الفرد أو هذه الجماعة. ثم إن القائمين بالثورة يعتبرون الاستيلاء على السلطة وسيلةً لتحقيق غاية عامة، في حين أن القائمين بالانقلاب يعتبرونه غايةً في حد ذاته. فالثورة أوسع واشمل من الانقلاب، وأثرها أقوى، ومحتواها أعمق، ومدلولها ونتائجها أكبر. والثورة تتضمن حكماً، الانقلاب والهدف الأساسي منه، بينما لا يتضمن الانقلاب أهداف الثورة. والانقلاب قد يتحوّل إلى ثورة، ولكنه من النادر أن تتحول الثورة إلى انقلاب.
ومع أن الفقه الدستوري لا يميز، من الناحية القانونية، بين الثورة والانقلاب، فإننا نفضّل، في حديثنا عن الربيع العربي، استخدام مصطلح (الانتفاضة أو الهبّة الجماهيرية)، وهو مصطلح ينطوي على إرهاصات من شأنها التمهيد لإحداث التطوير أو التغيير أو التبديل المنشود.
وعندما نتساءل عما إذا كانت الانتفاضات الجماهيرية التي عمّت أبرز المجتمعات العربية قد شرعت في تأسيس نظم ديموقراطية كفيلة بمساعدة هذه المجتمعات على الانتقال إلى مرحلة تسود فيها حرية الرأي والمعتقد، ومبدأ التسامح والتعاون على كل صعيد، نُفاجأ بظاهرة صعود التيارات السياسية الدينية في بعض الأقطار العربية، وحصولها على غالبية المقاعد في المجالس التأسيسية والنيابية. ومن الطبيعي أن يسفر هذا النجاح عن صبغة المجتمع بصبغة إسلامية متشددة أو متطرفة، أو عن الاستئثار بالسلطة السياسية واحتكار عملية اتخاذ القرارات، أو عن رفض أي تعاون مع التيارات السياسية الأخرى، ليبرالية أم يسارية.
وهذه النزعة إلى احتكار السلطات تجلت في تصرفات التيار الإسلامي الذي فاز بأغلبية المقاعد النيابية في مصر، ويطمح إلى السيطرة على جميع مؤسسات الدولة، بما فيها رئاسة الجمهورية. وبذلك يُمنى بالفشل مشروع قيام نظام ديموقراطي في مصر، بعد اندلاع الانتفاضة الجماهيرية في 25 يناير 2011.
ولو ألقينا نظرة عجلى على تجارب غيرنا في مجال الممارسات الديموقراطية لوجدنا أن الاعتماد على العقل، وليس على النص الديني، هو المبدأ السائد، وخصوصاً في المجتمعات المكونة من طوائف وقبائل وعروق.
فما هي أهم الاستنتاجات التي يمكن استخلاصها من الانتفاضات العربية؟
تنطوي الانتفاضات التغييرية في الوطن العربي على استنتاجات مهمة يمكن تلخيصها في النقاط الآتية:
أولاً – أثبتت بعض التجارب في حقل الانتفاضات ثلاثة أمور: الأول هو أن التغيير في الدولة يمكن أن يتم من الداخل، من دون الاستعانة بالخارج، أي بدول الجوار أو دول الاستعمار. والثاني هو أن إسقاط نظام مستبد وفاسد أسهل أحياناً من الاتفاق على طبيعة نظام جديد. والثالث هو أن الديموقراطية، كما ذكر الأستاذ خير الدين حسيب، هي شرط ضرورة وليس شرط كفاية، أي أنها ضرورية لتحقيق بعض الأهداف السياسية، ولكنها لا تكفي وحدها لتحقيق العدالة والتنمية الاقتصادية، أي زيادة الإنتاج وعدالة التوزيع والمساواة في الحقوق والواجبات.
ثانياً – تمكنت فئة من الانتفاضات من كسر حاجز الخوف لدى الجماهير من جبروت الأنظمة المستبدة، ومن آليات القمع والبطش التي تحتكرها وتتفنّن في استعمالها، ومن وسائل الوعيد والتهديد التي تلوّح بها.
ثالثاً – أهم الانتفاضات العربية هي ما حدث في مصر، وذلك لأسباب متعددة، أهمها أربعة:
نظراً لثقل مصر على الصعيدين العربي والدولي، ودورها البارز في النظام الإقليمي. والحقيقة أنه لا يمكن نجاح الثورة العربية الكبرى دون مصر. ولهذا فإن الاهتمام بما يجري في مصر، أو بما ستؤول إليه الانتفاضة في مصر، يفوق الاهتمام بما يجري في الأقطار العربية الأخرى. إن مصر قاطرة الدول العربية في السلم والحرب.
رابعاً- إن التقيّد الحرفي بما كان يقول به السلف، والعمل بمقتضاه، ليسا من الحكمة الواقعية ولا من مقتضيات الإيمان الحق. والقاعدة الشرعية تنص على تغيّر الأحكام بتغير الأزمان. ثم إن الإسلام ليس هوية سياسية، ولا يمكن أن يكون كذلك. وإذا اصطبغ بلون سياسي أصبح عامل تقسيم وتنافر بين أبناء الدين، بل بين أبناء المذاهب الدينية الأخرى التي يفاخر الوطن العربي باحتضانها والاعتزاز بها.
خامساً- إن التحركات الشعبية التي قادها الجيل العربي الراهن تطورت من احتجاجات إلى انتفاضات ثورية تستهدف مجمل النظام العربي الحاكم. وهذه الانتفاضات لم تولد من فراغ. إنها الانفجار النوعي المترتب على الفشل الكمي المتراكم بفعل سياسات الأنظمة على المستويات التنموية والتربوية والسياسية. فسياسات الاستبداد والإقصاء والإهمال لم ينتج منها إلاّ التهميش والفساد، ولم تؤد إلاّ إلى تمديد قوانين الطوارئ، وانتهاك الحريات، والإفراط في العنف الأمني، والتمييز المجحف بين الطوائف والمذاهب، والابتعاد عن دولة المواطنة والعدالة.
سادساً- من الانجازات التاريخية التي حققتها أو فرضتها الانتفاضات العربية:
إجبار الرئيس المصري على التنحي، وافتتاح محاكمته مع ابنيه وأفراد بطانته. واضطرار حاكم تونس إلى الفرار مع زوجته قبل إلقاء القبض عليه بدقائق. وإكراه حاكم اليمن على مغادرة بلده برعاية أميركية خليجية، طالباً العفو والمغفرة من الشعب عن كل تقصير أو انحراف صدر عنه. وتكرار التظاهرات والاعتصامات المليونية في الميادين العامة، وقيام الشباب من كل الفئات والتيارات بدور بارز فيها، وتمكنهم من إحباط المحاولات المتكررة لإشعال الفتن الطائفية بإحراق الرموز الدينية. والقضاء على نزعة التفرّد والدكتاتورية في مصر، وتحويل البلد إلى مسرح للتنافس والحوار والتفاوض بين قوى ثلاث: الجيش، الممثل بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي يستمد شرعيته من قوته العسكرية ودعم القوى الخارجية، الدولية والإقليمية، له. ثم مجلس الشعب الذي يستمد شرعيته من الانتخابات التي أسفرت نتائجها عن انقلاب كبير في موازين القوى السياسية في البلاد، بعد حصول التنظيمات الإسلامية على أكثر من ثلاثة أرباع المقاعد فيه. وأخيراً الجماهير التي تمثل الشرعية الثورية وتتمتع بقوة الضغط والمطالبة ببناء دولة مدنية ديموقراطية تقوم على حكم القانون والمؤسسات الدستورية.
تجلى التغيير الذي أفرزته الانتفاضات العربية في إلغاء أو تعديل العديد من الدساتير والقوانين التي لم تعد صالحة للعمل في المرحلة الراهنة.
وما هي، أخيراً، أهم الملاحظات العامة التي يمكن إبداؤها؟
على الرغم من مرور أكثر من عام على اندلاع الانتفاضات العربية فإنه من المبكر إخضاع هذه الظاهرة للتقييم النهائي. ما يمكننا أن نقوم به بعد الإطلاع على التطورات التي رافقت حتى الآن مسيرة الانتفاضات هو إبداء بعض الملاحظات!
أولا: ان القاسم المشترك بين تلك الإرهاصات المبشّرة بالتغيير هو وحدة الشعارات والأهداف المطروحة التي تتلخص في المطالبة بتحقيق المساواة، وتأمين الحرية، وتوفير العدالة والضمانات الاجتماعية، والخلاص من حكم الاستبداد وآفات الفساد، وهدر الثروات الوطنية، وتهجير الطاقات والكفايات، والاستسلام أمام الأعداء.
ثانيا: ان النقص الذي شاب هذه الانتفاضات يكمن في غياب القيادة الواعية والبرامج العملية الواضحة على الصعيدين الوطني (صعيد كل دولة عربية) والقومي (صعيد الوطن العربي).
ثالثاً: ان الانتفاضات انتقلت بسرعة قصوى من قطر عربي إلى آخر وبإيقاع متشابه، ما يدل على أن تيار العروبة، أو نداء العروبة، أو نبض العروبة ما زال حياً.
رابعاً: ان الشرائح المختلفة من الطبقات الاجتماعية والتيارات المختلفة من الأديان والمذاهب والأعراق قد شاركت في الانتفاضات، وان هذه الانتفاضات شملت مختلف أنماط النظم السياسية. فالمشاركون ينتمون إلى دول عربية تتبنّى النظم الملكية والجمهورية، والنظم المدنية والعسكرية، أو تُدرج في خانة الدول الفقيرة أو الغنية وتُحسب على التيار اليميني أو اليساري أو المعتدل.
خامساً: كانت لكل انتفاضة ميزات وأوضاع خاصة. فبداية الانتفاضة في كلّ من تونس ومصر كانت أسرع وأسهل وأسْلس من مثيلاتها في الأقطار العربية الأخرى.
وتميّزت الانتفاضة الليبية، إلى جانب البطش العسكري والانقسامات الداخلية، بتجنيد مرتزقة افريقيين واستدعاء قوى خارجية، في طليعتها «حلف الأطلسي»، رغم العلم والإيمان بأن هذه القوى كانت الحاضنة والداعمة لأشرس الأنظمة الدكتاتورية والإرهابية في العالم، وبأنها لم تُضمر يوماً الخير والود لأي قطر عربي. والحقيقة أن تلك الانتفاضة كانت أغرب الانتفاضات من حيث البداية والنهاية والمسيرة والأحداث، والوضع المضطرب فيها حالياً.
وكانت الانتفاضة اليمنية الأكثر ضجيجاً وقلقاً على صعيد الانقسامات الداخلية والتدخلات الخارجية، ونذكر أن ثمة خطة أميركية نفّذها مجلس التعاون الخليجي في اليمن قضت بتنازل علي عبد الله صالح عن منصب الرئاسة لنائبه، على أن تجري بعد فترة انتخابات نيابية وانتخاب رئيس جديد للبلاد.
وكانت الانتفاضة البحرينية الأصعب على صعيد التفاهم والتوازن والحسم داخلياً، وعلى صعيد الغليان والعنف والانقسام المذهبي وشدة التأثير في الخليج.
وكانت الانتفاضة السورية الأكثر أهميةً على الصعيدين الإقليمي والدولي، نظراً للموقع الاستراتيجي والقومي الذي تتمتع به سوريا على الخريطة العربية والدولية، وبالنسبة إلى المواقف المتباينة منها، سواء أكانت عربية أم أجنبية.
سادساً: ان كل نظرة سريعة وفاحصة نُلقيها على ما يجري على الساحة العربية تبيّن لنا أن الانتفاضات التي اندلعت في العام الماضي لم تهدأ نهائياً، ولم تحسم أمرها وتَنلْ مبتغاها بعدُ. أما الأقطار العربية التي لم يصل إليها بعدُ هذا النوع من الانتفاضات، فإن أجراس التذمر والغليان والتحذير فيها بدأت تُقرع، وجمر الانفجار الكامن في النفوس المعذّبة بدأ يتّقد ويتوهّج وينتظر الفرصة السانحة لنفض الرماد عنه.
سابعاً: ان الأنظمة المستبدة في الوطن العربي قامت، منذ وصولها إلى الحكم (بأساليب ملتوية أحياناً)، بتدميرٍ ممنهجٍ للقوى الوطنية التحريرية، فأتاحت بذلك الفرصة للقوى والتجمعات الإسلامية التي لم يكن لها دور فاعل في بداية الانتفاضات للبروز والهيمنة، واستغلال المشاعر الدينية، ونقمة الشعب على السلطة القديمة، فتسلقت سلّم الشرعية الانتخابية.
ثامناً: ان الفكر القومي العربي الداعي إلى الوحدة العربية والمنادي بتحرير كلّ فلسطين كان الغائب الأكبر عن تلك الانتفاضات. فالقضية الفلسطينية، من حيث الأهمية والمصير، لم تجد لنفسها أي مكان واضح ومرموق في البيانات أو التصريحات أو الشعارات التي صدرت عن الجماعات أو الأحزاب المناصرة للحراك الشعبي. وهذا ما نلمسه في إحجام الجماعات الإسلامية عن تحديد موقفها من اتفاقية «كامب ديفيد» ومسألة الاعتراف بإسرائيل. ولم تجد السلطة السياسية الجديدة في تونس، في كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، سوى عبارة خجولة بإدانة إسرائيل، لا لأنها ترتكب المجازر اليومية ضد الشعب الفلسطيني ولا تتورع في كل مناسبة عن شن الاعتداءات على الدول العربية، بل لأنها لا تحترم مبادئ حقوق الإنسان، كأن تلك السلطة الجديدة تُميط اللثام بذلك عن سرّ مجهول، أو تكتشف، لأول مرة، البارود.
تلك هي بعض الأفكار والانطباعات عن إرهاصات التغيير في بلادنا، بانتظار هبوب الرياح والعواصف العاتية القادرة على تبديد ظلمات الفساد والاستبداد والتخلّف.
لقد طالب أحد المفكرين العرب (طارق البشري) منذ سنوات، في كتابٍ له بعنوان (العرب ومواجهة العدوان) بإيجاد حلّ للإشكالية المثارة على امتداد الوطن العربي. وجوهرها التساؤل عن أيّهما أولى: مقاومة العدوان الخارجي على الأمة، أم مقارعة الاستبداد الداخلي في الأمة؟
ويبدو أن إرهاصات التغيير الراهنة تقدم جواباً شافياً يتلخّص في أن الأمرين متلازمان ومتكاملان، فلا يمكن مقاومة العدوان الخارجي إذا كان الطغيان أو الاستبداد أو القمع أو انتهاك الحقوق والحريات مستشرياً في البلاد بلا حسيب او رقيب. والعكس صحيح كذلك.
رئيس المنتدى القومي العربي في لبنان