د/ يوسف مكي
بعد أقل من أسبوعين من هذا التاريخ، سيحتفل الصهاينة، بمرور أربعة وستين عاماً على اغتصاب فلسطين، في 14 مايو/أيار ،1949 وتأسيس كيانهم الغاصب . ففي ذلك اليوم أعلن المجلس اليهودي الصهيوني قيام دولة “إسرائيل” . وكان معنى ذلك الحدث أن المشروع الذي حلم الصهاينة به منذ أواخر القرن التاسع عشر، في إقامة وطن قومي لليهود قد تحقق، بينما لم يتمكن الفلسطينيون من تحقيق حلمهم في الحرية وتحرير فلسطين وإقامة دولتهم المستقلة فوق ترابها .
واقع الحال، أنه لم يكن بالإمكان تحقيق المشروعين، الفلسطيني والصهيوني في آن . ففلسطين أرض لم تكن أبداً تقبل القسمة .
فالفلسطينيون عاشوا في وطنهم في سلسلة ممتدة، من دون انقطاع لآلاف السنين . وعلى أرضها شيدوا حضارتهم ومقدساتهم وأماكن عبادتهم . ولم يكونوا، في ظل أي وضع، على استعداد للتفريط في حقوقهم الطبيعية والتاريخية في هذا الوطن . وكانوا على استعداد دائم لتقديم الغالي والنفيس والتضحية بأنفسهم من أجل الدفاع عن حقوقهم القومية والوطنية . وقد اعتبروا مرحلة الانتداب محطة قصيرة، يتمكنون في نهايتها من نيل الاستقلال وحق تقرير المصير .
أما الصهاينة، فإن مشروعهم في وطن قومي استند إلى نفي وجود أي شعب على أرض فلسطين، وأن فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، وفقاً لتصريحات رئيسة الحكومة “الإسرائيلية” غولدا مائير . وكانوا في ذلك يستندون إلى جملة أطروحات مغرقة في العنصرية ولا تستقيم مع عقل أو منطق .
فهم شعب الله المختار، الذي اصطفي لعمارة الأرض . وهم يملكون حقوقاً تاريخية منحها إياهم النبي إبراهيم الذي وعدهم بحيازة فلسطين . وهم أيضاً شعب عصي على الاندماج في الشعوب الأخرى، في المجتمعات التي عاشوا فيها عبر التاريخ، بسبب خصوصية ثقافتهم وفرادتها . وعلاوة على ذلك، فإن حيازتهم فلسطين ستؤمن لهم وطناً قومياً، يلغي حالة النفي والاغتراب، ويزيح عنها عبء الاضطهاد وحملات الإبادة التي يتعرضون لها باستمرار، وبشكل خاص في أوروبا الشرقية .
وحين يقر بعض المؤرخين الصهاينة بالوجود الفلسطيني، فلكي يمارسوا نوعاً آخر من نفي هذا الوجود، مستخدمين أقسى توصيفات عنصرية وقاسية بحقه . فالمؤرخ بني موريس يصف الفلسطينيين ببرابرة العصر الحديث، وأن الكيان الصهيوني يقف اليوم في جبهة صدام الحضارات بين الغرب ومفاهيمه، والعالم العربي والإسلامي ومفاهيمه . ومن وجهة نظره هناك مشكلة عميقة في الإسلام فهو عالم ذو قيم مغايرة، عالم ليست فيه لحياة الإنسان القيمة ذاتها الموجودة في الغرب، حيث إن الحرية والديمقراطية والانفتاح والإبداع أمور غريبة لديه، ويأتي هذا التوصيف متماهياً مع رؤية صامويل هنتنغتون في كتابه صراع الحضارات
وتغوص هذه القراءة المعاصرة، للمؤرخ اليهودي، لبني موريس في عمق فكر مؤسسي الحركة الصهيونية . فمؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هرتزل في معرض محاولاته إقناع المسؤولين البريطانيين بتبني فكرة قيام وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، يوضح أن هذا الوطن سيشكل جداراً متيناً عازلاً بين الحضارة الأوروبية والعرب البرابرة .
وبهذا التوصيف، يبرر قتل العرب وإبادتهم، وفي أحسن الأحوال، ترحيلهم عن فلسطين لأن ذلك ضرورة لانتصار الإنسانية . وهذه القراءة ليست استغراقاً في التاريخ . فالدعوة للقيام بترانسفير جديد، يراها المؤرخ الصهيوني ضرورة لضمان أمن واستقرار “إسرائيل” . ومن دون طرد الفلسطينيين في السابق من وطنهم، لم يكن بإمكان الصهاينة أن ينتصروا في الحرب، ولم يكن ل”إسرائيل” أن تقوم . ومن وجهة نظره “هناك ظروف في التاريخ تنطوي على تبرير للتطهير العرقي” . ومن الناحية الأخلاقية كما يراها، لم يكن بوسع الديمقراطية الأمريكية أن تتحقق من دون إبادة الهنود الحمر . وهناك حالات يبرر فيها الخير الشامل، أعمالاً صعبة، ووحشية . وهذا يبرر في الحالة “الإسرائيلية” طرد الفلسطينيين من أرضهم .
ضمن هذه الرؤية العنصرية للمؤسسين والأحفاد، اندفع الصهاينة عام ،1902 بالضغط على بريطانيا لتأييد الاستيطان اليهودي في فلسطين . وفي نوفمبر/تشرين الثاني عام ،1917 صدر وعد بلفور الذي نص على أن الحكومة البريطانية تنظر بعين العطف لتأسيس وطن قومي للشعب اليهودي بفلسطين . وكان ذلك أول تأييد رسمي من إحدى القوى العظمى للإدعاءات الصهيونية في فلسطين . ومع أن الفلسطينيين حاولوا منذ البدء التصدي للهجرة اليهودية لأرضهم، لكن التوازن في الصراع لم يكن لمصلحتهم . فقد افتقدوا التنظيم والقيادة المقتدرة ووحدة العمل . فقد كانوا ممزقين إلى عشائر ومجاميع صغيرة . أدى ذلك لحرمانهم من التصدي للهجرة اليهودية إلى فلسطين . وكانت نتيجة ذلك أن كثيراً من الاحتجاجات والانتفاضات الفلسطينية ضد البريطانيين وحركة الهجرة اليهودية في نهاية الثلاثينات انتهت بنتائج مأساوية .
وقد تحققت الخطوة الرئيسية باتجاه حيازة فلسطين نهاية الحرب العالمية الثانية . ذلك أن الأزمة الاقتصادية التي تعرضت لها بريطانيا، بعد الحرب مباشرة، جعلتها تتهيأ للرحيل عن فلسطين . وكان العالم، قد بدأت تتنامى إليه أخبار الإبادة التي تعرض لها اليهود الأوروبيون في معسكرات الاعتقال النازية . أدت هذه العوامل لخلق مناخ مؤيد لقيام دولة يهودية، بدلاً من وطن قومي يدار من قبل البريطانيين كما اقترح في وعد بلفور .
في سبتمبر/ أيلول عام ،1947 تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار181 المتعلق بمستقبل القضية الفلسطينية . وقد نادى بتقسيم فلسطين إلى دولتين مستقلتين عربية ويهودية ونظام دولي خاص بمدينة القدس سيبرز إلى الوجود في فلسطين بعد شهرين من إتمام مغادرة القوات المسلحة لسلطة الانتداب .
وقد رفض العرب، هذا القرار لأن مخطط التقسيم لم يأخذ في الاعتبار نسبة التعداد السكاني للشعب الفلسطيني . ولأن الفلسطينيين في غالبيتهم اعتبروا المهاجرين الجدد من اليهود إلى فلسطين في حكم الأجانب الذين لا يملكون الحق في الإقامة الدائمة على هذه الأرض .
واندلعت الحرب العربية – “الإسرائيلية” الأولى، ونتج عنها تشريد الشعب الفلسطيني إلى الأقطار العربية المجاورة، وبقاء أقلية من الفلسطينيين تحت وطأة الاحتلال العسكري “الإسرائيلي” المباشر .
ففي تلك الحرب، مارس الصهاينة بحق الشعب الفلسطيني أبشع أنواع الجرائم، حيث لم يترددوا في ارتكاب المجازر في بئر السبع ودير ياسين، شملت بقر بطون النساء، وقتل الأطفال والشيوخ، ومصادرة الأراضي وهدم البيوت، والتهديد بإبادة السكان المحليين ما لم ينصاعوا لبرنامج الترانسفير، ولتكشف نتيجة الحرب عن وجه آخر أقبح للعقيدة والممارسات الصهيونية .