عبد الاله بلقزيز
لم تفرض الثورات العربية نفسها، في بداية أمرها، بقوة شرعيتها وشرعية مطلبها في تغيير نظام الاستبداد والفساد، فحسب، وإنما هي فرضت نفسها – أيضاً – ببلاغة أدائها المدني المتحضر، ورأسمالها الأخلاقي السلمي، فهي ما استدرجت إلى العنف على الرغم من البطش الذي به ووجهت من قبل الأجهزة الأمنية، وعلى الرغم من سعي نظامي مبارك وبن علي لتوريط جمهورها في عنف يبرر للسلطة عنفها، انذهل الجميع بقدرة ملايين الناس على إلحاق هزيمة نكراء بنظامين عريقين في القمع من دون إراقة قطرة دم . الدم الوحيد الذي أهرق كان دماً متظاهراً، لشباب أعزل إلا من سلاح الإرادة والعزم والتصميم على بلوغ هدف التغيير . وكائنة ما كانت النتائج التي انتهى إليها ذلك الحلم الثوري العظيم بغد ديمقراطي، يكنس الاستبداد والمستبدين إلى غير رجعة، وأي يكن حجم الخيبات التي أصيب بها ملايين الشباب الذين ثاروا ولم يحصدوا ثمار ثورتهم، سيظل التاريخ يذكر للثورتين التونسية والمصرية – وللثورة اليمنية إلى حد كبير – الطابع السلمي والمدني، الذي عزت له النظائر، وما ضخه ذلك الطابع في رصيد فكرة الثورة العربية من قيمة أخلاقية وسياسية رفيعة، بعد كبير اشتغال غربي على وصم صورة العربي بالعنف والدموية .
من النافل القول إن مدنية الثورات وسلميتها تفسران كثيراً من جوانب نجاحها، فلقد وفرتا لها، على الأقل، النصاب الشعبي والجماهيري الذي لا غنى لثورة في التاريخ عنه، ورفعتا شعور التردد لدى المترددين في الانخراط في مجرى عملية التغيير، بعد أن اطمأنوا إلى أنهم يشتركون في ثورة متحضرة نظيفة، لا عنف فيها ولا مغامرات . ثم إن تمسكها بسلميتها أعجز الأنظمة عن مواجهتها بعنف منفلت من أي ضابط، ووضع إرادة القوة والبطش لدى تلك الأنظمة في حال شديدة من الحرج، بل هو ألحق بجبروتها هزيمة أخلاقية مروعة . وإلى ذلك، فإن تلك السلمية أحرجت القوى الدولية الراعية للاستبداديات العربية، ومنعتها من الدفاع عن تلك الأنظمة العميلة، أو إسعافها في لحظات الاحتضار بمخرج مشرف (كالذي مكنت منه نظام علي عبدالله صالح في اليمن بعد أن وقعت الواقعة في تونس ومصر) . وهكذا أتى الطابع السلمي للثورات الثلاث، في تونس ومصر واليمن، يزودها بالطاقة الضرورية للصمود والانتصار .
وكما كان رأسمال السلمية ضرورياً لنجاح الثورة، واجتيازها عقبة عنف النظام، كانت في حاجة – في الوقت عينه – إلى عامل مساعد لا يقل أهمية في تمكين النجاح للثورة، هو تحييدها بعض قوى النظام، أو بعض أجهزة الدولة التي قي يسخرها النظام في المعركة ضد الانتفاضة، وتحديداً الجيش . والحق أن حياد الجيش، في الصدام العظيم بين الشعب والنظام، ساعد الثورة على اختصار الطريق إلى التغيير، ولولاه ما كانت صورة الأحداث لتتخذ الملامح التي اتخذتها، ولا لتنتهي إلى ما انتهت إليه من نتائج، فالحياد ذلك بمقدار ما حرم الأنظمة – في تونس ومصر واليمن – من مخالب وأنياب لتمزيق جسد الثورة، بمقدار ما وفر شعوراً بالدعم المعنوي للشعب كان يحتاجه كي يكسر، نهائياً، شرانق الخوف التي ضُربت عليه لعهد طويل .
قد يكون في حكم العسير أن يغامر المرء بالقول إن حياد الجيش، في المعركة الداخلية على السلطة، يرد إلى إيمان المؤسسة العسكرية بأنها جهاز للدولة والوطن، لا أداة قمع في يد النظام، لكن هذا الحياد سيصب، قطعاً، وفي المستقبل، في رصيد هذه الرؤية، وهذا التعريف، للجيش كنصاب متعال ومحايد، ينتمي إلى الدولة لا إلى السلطة والنظام . وإذا كان يسع كثيرين في أن يقرأوا، اليوم، في ذلك الحياد ما يفيد رغبة الجيش في التخلص من نظام أهان المؤسسة العسكرية، فإن الذي لا مرية فيه أن سلمية الثورة كان لها دور في دفعه نحو التزام خيار الحياد، ورفض توريط الجيش في قتل مدنيين عزل، من غير سلاح .
وكما أفاد حياد الجيش الثورة، في مركزيها التونسي والمصري، فأخرج من المواجهة قوة كان “الشارع” المنتفض سيلقى صعوبة بالغة في مغالبتها، أفادت الثورة من حال الضعف والتآكل، التي بدا بها النظامان في تونس ومصر، في لحظة الصدام، وخاصة بعد أن اجتازت الانتفاضتان أيامهما الأولى بنجاح، واستَعْصَتا على الكسر أو الإخماد . ومع أن الذين تدفقوا في الشوارع والساحات يعرفون مقدار ما يعانيه نظامهم، إن كان في تونس أو في مصر، من أزمة عميقة في الشرعية، إلا أن أكثرهم تفاجأ بهشاشة المرتكزات الاجتماعية، والسياسية، والأمنية لذلك النظام، وعلى نحو لم يكن يوحي به بطشه في السابق، ففي أيام معدودات من انطلاق الانتفاضتين، تبخرت القاعدة الاجتماعية لنظامي بن علي ومبارك، وحزبيهما الحاكمين، وتوحلت أجهزتهما الأمنية في مياه الثورة، وفر من قوي على الفرار من البوليس والأمن المركزي، وفقد النظام السيطرة على الأوضاع سريعاً، وتركت قيادته ونخبته العليا تواجه مصيرها من دون نصير ممن أنفق على شراء ولائه الكثير . وهكذا فتح ضعف النظام الباب واسعاً أمام بلوغ الثورة هدف إسقاط النخبة الحاكمة في البلدين .
لا نملك، أخيراً، أن نقفل باب هذه الإطلالة السريعة على جملة العوامل المساعدة في نجاح “الثورة” في إسقاط النظامين التونسي والمصري، من دون أن نعرج على عامل مساعد رابع، ولكنه تكويني وتحتي هذه المرة، هو عامل الاندماج الاجتماعي النسبي الذي يتمتع به المجتمعان التونسي والمصري قياساً بغيرهما من المجتمعات العربية . فلقد كان لخلوهما من ظواهر الانقسام العامودي والعصبوي: الطائفي والمذهبي والقبلي والعشائري، وتمتعهما النسبي بوحدة النسيج الاجتماعي، الأثر الإيجابي الكبير في ترجمة التناقضات الاجتماعية ترجمة مدنية سليمة، أعني في صورة اصطفافات سياسية وأفقية لا التباس في هويتها، وفي صورة تقاطب مصالح اجتماعية وسياسية عامة، لا في شكل تقاطب مصالح أهلية وفئوية . ويمكن الاستطراد على هذه الملاحظة بحاشية تنبه إلى حقيقتين متلازمتين، في مشهد الاجتماع الوطني في تونس، ومصر، أولاهما أن البلدين هما – إلى جانب بلاد الشام – الأعرق عربياً في استقبال الحداثة وأفكارها، وتوطينها في النخب والمجتمع، منذ ما يزيد على قرن ونصف . وثانيهما أنهما، معاً، أكثر البلدان العربية التي احتلت فيها الطبقة الوسطى مكانة مركزية في المجال السياسي . والعاملان ذيناك ليسا تفصيلين في تاريخ مجتمع .
دار الخليج:الاثنين ,16/04/2012