اسماعيل ابو البندوره
في ذكرى تأسيس البعث، تنتصب أمام عقلنا مجموعة رؤى، وتحديات، واشكاليات، نرى ضرورة الوعي والتذكير بها من خلال منهج البعث ذاته الذي لاينهض على فكر افتخاري ورغبي وحسب، وانما يتأسس على ضوء فكر نقدي ابتكاري، يراجع اطروحاته، ومساراته، ويفتح لذاته الآفاق والمسارات الواقعية للاجابة على تحديات الحاضر، والمستقبل.
فالبعث لم يكن ولن يكون أسير الماضي، وحتى عندما يقرأ الماضي، فهو يقرأه قراءة حافزة واستنهاضية، ولا يرى من مهماته الفكرية الجوهرية الاسترسال في تبجيل هذا الماضي، وانما هو يعاين الحاضر وينطلق من معطياته، ويتطلع الى المستقبل، وتلك خاصية منهجه الفكري، بأن يكون مشروعا للمستقبل، وأن لا ينغلق على مقولاته، ويحولها الى أقانيم، وأصنام فكرية.
ان مجرد وعينا بأن البعث هو الجهة السياسية العربية الوحيدة التي عملت قوى الاستعمار والصهيونية في العهد الحديث على استئصاله واجتثاثه، يولد لدينا سؤالا، حول أهمية المعنى والمشروع البعثي، وعن الرؤية الاستعمارية المضادة والمرعوبة من مشروعه القومي، القابل للتجسيد في الحياة السياسية العربية، وذلك بعد معاينة تجربة هذا الحزب القومي في العراق تحديدا (ألم ترسل قوات الاحتلال خبراء أمريكان للتفتيش في بعض الاوراق العراقية للاطلاع على كيفية ادارة وتسيير أمور الدولة، أثناء الحصار)، وماالذي يمكن أن يتفتق عنه مشروع البعث عندما تتجسد مبادئه في صيغة مشروع قومي، وبقيادة مناضلة واستشهادية، مثل تلك التي مثلها الشهيد المجيد صدام جسين ورفاقه الأبرار.
وهذا المعنى البعثي يمكن أن يكبر ويصغر بقدر مايعمل البعثيين على تمثله، وتجسيده في الحياة العربية، وبقدر ما يضخون فيه من أفكار ورؤى جديدة، تعزز مسيرته، وتجدد اطروحاته، وتعيد الاعتبار لتجربته القومية المتألقة، والقابلة للنمذجة، ذلك أن الحزب لا يتوقف وينتهي بانتهاء مهمة قومية من مهماته، وهو ليس حزب – مرحلة، وانما هو حزب – رسالة، وهو الذي يحدد آفاق وبدايات مهماته الجديدة، ويجدد من خلالها مشروعه، واطروحاته، ويعيد انتاج ذاته الحاضرة والفاعلة، بشكل مغاير ومختلف.
والتحدي الفكري والسياسي الكبير الآن بأن يفهم ويتمثل البعثيون، ومعهم أبناء الأمة، المعنى الجديد لنضال الحزب، وأن يبتكروا الحقول الجديدة التي يمكن من خلالها تجديد حضور مشروع البعث، والانتقال به من مرحلة الى مرحلة جديدة، وتأكيد حضوره في الحياة العربية. ويبدو ذلك ممكنا في المرحلة الراهنة لأن البعث في انتقاله الى المواجهة الميدانية، وقيادة المقاومة في العراق، قد افتتح عهدا بطوليا، ومرحلة جديدة وملائمة لاعادة النظر ببرنامجه ومشروعه القومي، وتلك لعمري من التحديات الراهنة الكبرى التي لابد من الانخراط بها في كافة أقطار الوطن العربي، لاعادة الحضور والاعتبار لمشروع البعث القومي، بأجلى، وأدق معانيه، ومن خلال استظهار المعاني الكبرى في مشروع البعث الظافر، ومن خلال قدرته على استعادة نسقه الأصيل بأنه حزب مقاومة وليس حزب سلطة عابرة.
لقد قامت تجربة البعث منذ البداية على قراءة واقعية نضالية للواقع العربي، وتم اختبار هذه القراءة وهذه التجربة اثناء حكم البعث في القطر العراقي (1968 – 2003)، حيث أنشأ البعث مشروعة، وانطلق فيه الى أبعد مداه، الا أن ظروفا وتحديات داخلية وخارجية قاهرة، وبعض العيوب الذاتية في التجربة، حالت دون تحقق المشروع في معظم تفاصيله ومفرداته، وانتهت بمحاولة اجتثاثة بعملية قسرية – استعمارية – صهيونية – ايرانية فاشية وبربرية، وابطال هذا المشروع الى الأبد، ومحوه من الخيال السياسي العربي.
وعندما انتقل البعث الى المقاومة، وأفشل هذه المؤامرة الكبرى، ظهرت في الأفق دلالات جديدة، كان من الضروري أن تقرأ قراءة صحيحة واستشرافية، لتؤكد مجددا، قدرة البعث على التجدد والانبعاث، وقد بدأت أوساط عربية كثيرة باعادة قراءة هذه التجربة، والتمعن في مساراتها ومعطياتها الى أن تحولت الآن، بمعانيها ووهجها الذي أدى الى افشال المشروع الاستعماري في العراق، الى أرضية للتفكير بالواقع العربي، واعادة صياغته، والتفكير به بشكل مختلف، حتى أن حركة الاحتجاج العربي التي ظهرت في أكثر من قطر عربي، وفي بعض صورها ومنطقها، كانت نتاجا لهذا الوعي الجديد بالتجربة القومية العراقية التي قادها البعث، واستدراكا لاطروحاتها التأسيسية في بناء الوعي المقاوم، وضرورة التغيير والانقلاب على الواقع العربي المتردي.
في ذكرى تأسيس البعث نجدد الدعوة الى كافة القوى الحية في وطننا العربي، والى كافة الشباب الذين يحركون الشارع العربي في اللحظة الراهنة، أن يقرأوا تجربة البعث بصورتها النهضوية والمقاومة، وأن يحاصروا القراءات والافتراءات المضادة التي تحاول تشويه صورة البعث، وتشويه تجربته، وأن تكون نقطة البداية بالنسبة لهم كما كانت نقطة البداية التي اجترحها مؤسس البعث، والتي تؤكد على قدرة الأمة وقدرة الشعب العربي في كل أقطاره على التغيير والانقلاب على الاوضاع الجائرة والمتردية، والانطلاق الى ميادين البناء والتقدم.
البعث الآن في تجربته المقاومة في العراق، بقيادة أمينه العام المقاتل في ميادين الجهاد عزت الدوري،، وفيما يقدمونه من دلالات واستنتاجات، يصلح أن يكون الفضاء الذي يجب أن تنطلق منه وفيه المبادرات والرؤى القومية المقاومة الجديدة، وهو الأفق المنطقي والموضوعي، والمتاح الآن للتفكير بالحاضر والمستقبل العربي، وتوحيد الرؤى والامكانات الشعبية حول فكرة الوحدة والتغيير، ومناهضة الاستبداد، والهيمنة الاستعمارية والصهيونية