عبد الاله بلقزيز
ذهب الظن بأكثرنا، حين انطلق موسم الثورات والاحتجاجات في مطالع العام الماضي، إلى أن قضية فلسطين وحقوق شعبها ستكون أكبر الرابحين مما يجري، وأن الكيان الصهيوني سيتلقّى تلك الأرباح الفلسطينية خسارات صافية في رصيد مشروعه الإحلالي والتوسعي . والظن هذا كان منطقياً حين انبثاقه، إذ ليس تفصيلاً أن الثورة ذهبت بنظام كامب ديفيد: حليف “إسرائيل”، ومهندس التسويات المذّلة، والشريك الكامل لأمريكا والكيان الصهيوني في حصار الشعب الفلسطيني وتضييق الخناق على ما تبقى من مقاومته المسلحة . وهي ذهبت، في الوقت عينه، بنظام تونسي لم يكن يخفي علاقاته ب “الإسرائيليين”، ولم تتوقف وفود هؤلاء عن التدفق إليه في المناسبات السياسية والعلمية والاقتصادية والرياضية، كما من وراء السياحة .
كان الاعتقاد الموازي أن كلّ ما أنفقته الإدارات الأمريكية المتعاقبة، منذ عهد نيكسون، من أجل تمكين الدولة الصهيونية من إقامة هادئة ومريحة في قلب الوطن العربي، وعن طريق تدجين الوضع العربي وخلع أسنانه وأظافره، انتهى إلى إنفاق فاشل من دون عائدات بعد تهاوي الجدار العربي الحامي للكيان الصهيوني . بدا كما لو أن السياسة الأمريكية خرجت من معركتها مع العرب بخفّيْ حُنين: إذ لم يكن مشروعها لإقامة “نظام الشرق الأوسط” قد تلقى ضربته القاصمة في لبنان، صيف عام ،2006 حتى انهار سياج النظام العربي، الذي أحكمت بناءه كنمط دفاع عن “إسرائيل”، حين انتفض الشارع ونفض عنه غبار المذلة والاستكانة .
لكن شيئاً من ذلك الظن لم يبصر النور في الأشهر التوالي على بدء انفجار البركان الشعبي . لاشك في أن البركان ذاك ألقى بحممه على بعض النظام العربي، فأحرق عروشاً، وأحرق من يقيمون على حواشيها من البطانة والأخدان، وأخرج من جوفه إلى السطح كنوزاً مخبوءة: أولها العزيمة والإرادة والقدرة على صنع المصير . لكن شيئاً من تلك الحمم الحارقة لم يصب الكيان الصهيوني، فقد بدا وكأنه يقيم خارج الأرض التي احتلها، في قلب الوطن العربي، وبعيداً جداً من تأثيراتها وذيول ما يقع فيها من ثورات . حتى إنه هاجم غزة، في مناسبات عدة، للرد على صواريخ “الجهاد الإسلامي”، فسفك دماء المدنيين بأعصاب باردة، وأطلق في القدس وعلى أطراف الكتل الاستيطانية الكبرى في الضفة الغربية، حركة استيطان مجنون غير غابئ بأي احتجاج، وهدّد الفلسطينيين وتوعّدهم، بالويل والثبور وعظائم الأمور، إن هم أصغوا إلى صوت العقل والمصلحة الوطنية العليا، فأنهوا انقسامهم، وأنجزوا مصالحتهم التي خرج الشعب يطالب بها في مسيرات واعتصامات . بدت “إسرائيل” وكأن ما يجري على حدود فلسطين لا يعنيها، ما خلا التفكك المتفاقم للنسيج الوطني السوري الذي استبشرت به خيراً، وصبت الزيت على فتيله .
واليوم، وبعد عامٍ ونيّف، من انطلاق موسم الثورات، ها هي قضية فلسطين وحقوق شعبها تتراجع إلى الخلف، فلا أحد يتحدث عنها أو يطالب بها . حتى المتظاهرون اليوم لا يعنيهم أمرها في شعاراتهم التي يحملون، وهي التي سكنت وجدان آبائهم وأجدادهم منذ ثلثي قرن . أما حكومات العرب والعجم، فحدّث ولا حرج، لا أحد يرغب في أن يَرِد اسمها على لسانه مخافة أن يلحقه العقاب الدولي الذي لحق غيره ممن أحلّها مكاناً مناسباً في سياساته . الكل، في بلاد عرب هذا الزمان، متفرّغ للكل، إلا للعدو المحتل، فهو في راحة من أمره . حركات احتجاجية تثور ضد أنظمتها فتُسْقِط منها ما استطاعت إسقاطه، وتستنزف منها ما لم تَقْوَ على قَلْبه . وحكومات تصفي حساباتها مع أخرى مستثمرة ضائقتها السياسية مع شارعها المنتفض، أو معارضتها المسلحة، والثورة تتمخّص فتنجب حكومات لم تخرج من رحمها . والنخب الجديدة، التي أنجبتها صناديق الاقتراع، لم تقل – حتى اللحظة – شيئاً عن فلسطين والكيان الصهيوني، وبعضها يتصرف مع “كامب ديفيد” وكأنه اتفاقية صيد بحري بين مصر وأستراليا . أما الثورة، فتنزلق شيئاً فشيئاً نحو الحرب الأهلية المديدة .
ليس في هذا المناخ ما يخيف “إسرائيل”، أو حتى يقلقها، فالعرب متفرغون لبعضهم بعضاً، ويتركونها تنعم بالهدوء المطلق . وبعض جيوشهم، التي تقوم عقيدتها القتالية على حسبان “إسرائيل” عدواً، يتعرض للاستنزاف اليومي في معارك الشوارع والحارات . والناس جميعاً مشغولون بأخبار “البورصة الثورية” ومؤشرات الصعود والهبوط فيها . مم تخاف إذاً؟ بل كيف لا تستثمر فترة السماح هذه لتكثيف الاستيطان وتغيير الأمر الواقع؟
الخليج الإماراتية:الاثنين ,27/02/2012