لتكن جرأتنا في المصارحة والمصالحة ومعالجة القضايا من جذورها
منصور الجمري
اللجنة الوطنية المعنية بتوصيات تقرير تقصّي الحقائق قالت في 27 ديسمبر/ كانون الأول 2011 إنها طلبت تقديم تفسير لبعض العبارات الواردة في الفقرتين (1716) و(1722 – ب) من تقرير بسيوني كعبارة «آلية محايدة ومستقلة»، وعبارة «تلك الموجودة في سلسلة القيادة العسكرية والمدنية»، وعبارة «المعايير الدولية – للمسئولية العليا». وردّت الحكومة على اللجنة بأن وفداً من الخبراء والفقهاء القانونيين البارزين على المستوى الدولي من بريطانيا سيقوم بزيارة إلى البحرين نهاية ديسمبر 2011، بغرض «تقديم الدراسة والمشورة بشأن تفسير عدد من التوصيات الواردة في تقرير اللجنة المستقلة لتقصّي الحقائق، بما في ذلك التفسير الذي طالبت به اللجنة». والخبيران الدوليان هما السير دانيال بثلم Sir Daniel Bethlehem والسير جفري جاويل Sir Jeffrey Jowell ، وهما سيساعدان الحكومة على تنفيذ توصيات بسيوني.
بداية، فإن إفساح المجال لتقصّي الحقائق من قبل لجنة تتكون من شخصيات دولية يعتبر خطوة كبيرة لصالح القيادة السياسية، ومن دون شك، فإن قبول جلالة الملك بأن يقرأ رئيس لجنة تقصّي الحقائق محمود شريف بسيوني ملخصاً في 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011 أمام العالم أجمع يُعبّر أيضاً عن خطوة شجاعة استحقت الشكر والثناء من الأمم المتحدة وجميع عواصم العالم المؤثرة في القرار الدولي.
ولقد كنا نأمل مواكبة هذه الخطوة الشجاعة بتنفيذ سريع لتوصيات تقرير بسيوني من قبل الجميع، ولاسيما أن مؤسسات الدولة كانت قد أعلنت استعدادها للتنفيذ السريع والقبول بنتائج التقرير.
يساورني الشك أن هناك ممن يعنيهم الأمر ربما لم يقرأوا ما جاء في تقرير بسيوني، ولذا عندما يذكر أحد شيئاً ما – وهو موجود في تقرير بسيوني منذ نوفمبر الماضي – يُصاب البعض بالدهشة ويستغرب «أين توجد هذه المعلومات؟»، والغرابة تكون أكبر عندما يأتي الجواب: «في تقرير بسيوني».
وهناك من قرأ التقرير ويشعر بالحيرة، أو بالصدمة، أو بالذنب عندما يطلع على تفاصيل بعض ما جرى في البحرين خلال الأشهر الماضية. ونأمل أن يكون كل ذلك جزءاً من مسيرة تصحيحية، تتخللها مصالحة وطنية شاملة، وحوار جاد يجمع كل الأطراف المعنية على أسس واضحة تحترم حقوق الإنسان وتتبنى رؤية ديمقراطية مستقبلية تجمع كل البحرينيين من دون استثناء، ضمن معادلة تقوم على جبر الضرر والتراضي والعدل.
إن ما حدث من انتهاكات لم يأت عبثاً، وإنما كان نتيجة حتمية لما ساد من ثقافة وإجراءات… وللتوضيح على ما أقول، فإن هناك دراسات علمية تثبت أن البيئة المحيطة بأي شخص عادي قد تحوّله إلى وحش كاسر. ففي العام 1961 أجرى عالم النفس الأميركي ستانلي ميلغرام تجربة أعطت نتائج مذهلة، وكشفت التجربة، التي يطلق عليها Milgram experiment ، أن فرداً عادياً بإمكانه أن يقوم بأعمال خارج الأخلاق والإنسانية ضد فرد عادي آخر بمجرد أن تُوفَّر له البيئة السلطوية. فعالم النفس المذكور أعلن في الصحافة عن رغبته في الحصول على متطوعين للقيام بتجربة… وخصص التجربة على سياق أن يسحب كل متطوع ورقة تحدد إذا كان سيصبح أستاذاً أو تلميذاً. ورتب عالم النفس الأوراق بحيث يكون أحد الممثلين المشاركين في التجربة تلميذاً، بينما يكون المتطوع أستاذاً. وبعدها قام عالم النفس بإعطاء أسئلة يوجهها المتطوع (الأستاذ) إلى التلميذ (الممثل الذي وُضع في غرفة ملاصقة)، وأنه في كل مرة يخطئ فيها التلميذ يقوم الأستاذ بصعقه بتيار كهربائي مقداره 15 فولت. طُلب من المتطوع أن يتذوق صعقة كهربائية بهذا المقدار قبل بدء التجربة، وقيل له إنه يستطيع أن يزيد الصعقات كلما أخطأ التلميذ، إلى أن تصل إلى حدٍّ قاتل وهو 450 فولت.
التجربة تبدأ بعد أن يقوم الممثل بنزع الأسلاك الكهربائية (من دون علم المتطوع)، ويبدأ الأستاذ (المتطوع) بطرح الأسئلة على التلميذ (الممثل)، وإذا أخطأ التلميذ يقوم الأستاذ بالصعق… تبدو المسألة مثل اللعبة في البداية، وبعد فترة يتعود المتطوع على الصعق، بل إن بعض المتطوعين يتلذذ بصرخات الألم التي يسمعها من التلميذ. وفي حال أراد المتطوع الانسحاب من التجربة يقوم عالم النفس (أو مَن يعمل معه) بتوجيه أوامر للأستاذ (المتطوع) أربع مرات بالتدرج. في المرة الأولى يقول له «واصل التجربة رجاءً». في المرة الثانية يقول له «إن التجربة مهمة وتتطلب أن تواصل ما تقوم به». في المرة الثالثة يأمره «إن الأهمية القصوى تتطلب منك أن تواصل التجربة». في المرة الرابعة يأمره «ليس أمامك أيّ خيار ويجب عليك أن تواصل التجربة».
اكتشف عالم النفس أنه وبسبب الطريقة التي حضّر فيها للتجربة وجهّز الأجواء، فإن أكثرية المتطوعين واصلوا التجربة حتى إيصال الصعق الكهربائي إلى درجة الموت، عندما يقوم الممثل بالصراخ وهو يمثل دور المحتضر وثم الميت. ووجد عالم النفس، أن الأكثرية خضعت للبيئة السلطوية، وأثبت إمكانية تحويل شخص عادي إلى قاتل لشخص آخر. وهذا يعني أن معظم الناس قد يتصرفون في حالات بشكل خارج نطاق الإنسانية بمجرد أن تتوافر لهم البيئة السلطوية المحرضة.
العالم النفسي ستانلي ميلغرام توفي العام 1984، ولكن تجربته أثرت كثيراً في فهم كيف تجري الأمور ضمن ظروف معينة، ولا أعتقد أنني سأفيد الخبيرين الدوليين بشيء مما ذكرت أعلاه، ولكن بودّي أن نتعلم نحن البحرينيين مما حدث، وأن تكون جرأتنا في إنقاذ أنفسنا وبلادنا عبر إيقاف مسببات المآسي التي حدثت، وأن نبدأ مسيرة المصالحة الوطنية الشاملة والإصلاح السياسي الحقيقي الذي يعالج القضايا من جذورها، والحلول واضحة أمام الجميع. نعم، فلتكن جرأتنا في المصارحة والمصالحة ومعالجة القضايا من جذورها
صحيفة الوسط البحرينية – العدد 3407 – الخميس 05 يناير 2012م الموافق 11 صفر 1433هـ