لماذا تدق طبول الربيع العربي للأحزاب الإسلامية
د. علي الخشيبان
عندما انطلقت الثورات العربية من تونس لم يكن هناك من تفسير واضح لما يحدث فقد صعق الجميع وهو يتلقى أخبار التطورات في مسلسل الثورات العربية، ويبدو أنه مسلسل من عدة حلقات ومع كثير من التفسيرات إلا أنه وبمرور الوقت تعوّد الشارع العربي والسياسة العربية على قبول مفهوم الثورات
العربية ومفهوم الربيع العربي لتلطيف الأزمة وبقي السؤال المشروع يدور في أروقة السياسة العربية هل بقاء الحكومات والأنظمة التي اجتاحتها الثورات العربية أفضل أم الثورة عليها هو الأفضل..؟.
التكهنات كثيرة والمنطقة السياسية الوسط والراغبة في التغيير المتدرج وبشكل أهدأ من المظاهرات والقتل هي عنوان الكثير من الدول التي تراقب الوضع القائم، ولكن تبقى الحقيقة أن تلك الثورات غيرت وأتت بواقع مختلف وقد يبدو مسبباً للفوضى ولكن طبيعة الثورات عمليا تتطلب كل هذه السلبيات فالثورات كما يقول عنها ميكافللي أنها نظام يعقبه فوضى يعقبها نظام.
نحن اليوم أمام نهاية العام الأكثر إثارة خلال القرن الحادي والعشرين بعد عام الأحداث السبتمبرية 2001م، وقد بدأت تتبلور الكثير من المسارات السياسية في العالم العربي ففي تونس يفوز الإسلاميون وبقوة في الانتخابات وفي مصر ينتصر الإخوان بعدما تولى جناحهم السياسي (الحرية والعدالة) مهمة السياسة، وفي المغرب تحقق الثورة الصامتة فوزا ساحقا لحزب إسلامي آخر هو حزب التنمية والعدالة، هذه الدول الثلاث في العالم العربي وهي دول لها قيمتها السياسية وهذه الأهمية تطرح السؤال الأهم: لماذا تدق طبول الربيع العربي للأحزاب الإسلامية..؟
الإجابة عن مثل هذا التساؤل مهمة لمعرفة وإدراك الحقائق فهذه الأحزاب الإسلامية جميعا كانت تتهم بالعنف وتضاعف الضغط عليها بعد أحداث سبتمبر ولكننا اليوم نراها فرس الرهان وتدق لها الطبول في مظاهر استقبال لها على بوابة البرلمانات العربية وكأنها تردد تلك المقولة الشهيرة لميكافللي أيضا "يمحو النصر آثار أكثر الأعمال فشلًا، فيما تجهض الهزيمة أكثر الخطط تنظيماً".
اليوم تدخل الأحزاب الإسلامية السياسة ولكن ليس عبر بوابة الخلافة كما كنا نتوقع وكما كانت تلك الأحزاب تردد ولكنها اليوم تدخل بوابة السياسة عبر البرلمانات والديمقراطية والانتخابات التي كانت تقاومها فكريا وعمليا، فكل هذه الجماعات، أضمرت عداء للديمقراطية في مراحل مهمة من حياتها السياسية، وكانت تطرح مقولات متواضعة وبسيطة سهلة النطق مستحيلة التطبيق في أن لديها الحل لكل شيء وهذا ما جعلها تتوارى عن التفكير في القضايا المعقدة في المجتمع والاقتصاد.
في تاريخ تلك الجماعات ارتباك واضح بين التطور التاريخي والحضاري المدني للبشرية، وبين ثبات العقيدة والدين كمنهج للعبادة والتوحيد.. هذان المساران التطور البشري الطبيعي واستقلالية الدين كحدث تاريخي مستمر: هما اللذان أربكا تلك الجماعات في كثير من مواقفها السياسية على وجه الخصوص، والسبب في ذلك هو عدم القدرة على الفصل بين الثابت والمتغير في التاريخ البشري.. ولعل ذلك الخلط الكبير هو الذي جعل الكثير من تلك الأحزاب تحاول جاهدة تحليل وفهم ذلك الصراع بين "الايديولوجيا والبراغماتية".
اليوم الأحزاب الإسلامية السياسية تقبل بشكل براغماتي النزول إلى الشارع للاقتراع ثم الصعود إلى البرلمان بالصناديق وهذا نهج ديمقراطي كامل في صورته النظرية وكل ما يمكن انتظاره بعد اليوم هو إما الانقلاب على السياسة والديمقراطية، أو الانقلاب على الشارع الذي انتخبها فهي بلا شك سوف تجد نفسها أمام هذه المعضلة السياسية.
بمعنى دقيق سوف يدرك الإسلاميون أن السياسة براغماتية تعتمد على تحرّكً وتغير دائم لخطوطها الحمراء وحدودها، بينما الايديولوجيا منهج تحكمه قيم يستحيل تحريكها، ويحكمه خط لا يمكن تغييره في أروقة السياسة ولذلك يكون السؤال: هل ستلجأ الأحزاب الإسلامية إلى طلب الفتوى في المعضلات السياسية..؟
سؤال مشروع تكمن أهميته في حقيقةٍ سوف نراها خلال الأيام القادمة.
الخيار الثاني هو الانقلاب على الأتباع فاختيار مصطلح الحرية بشكل مطلق قبل العدالة في تسميات الأحزاب الإسلامية له مدلول انقلابي على الشارع الذي يوصلها إلى مقاعد البرلمانات. واختيار العدالة كمصطلح له أيضا دلالة فكرية انقلابية على أساس النهج القادم لتلك الأحزاب.
تجربة الأحزاب الإسلامية في السياسة لم تتضح بعد، والأيام القادمة كفيلة بجلائها ولكنها معرّضة للكثير من الاختبارات القاسية ولعل السبب يكمن في فكرة أن الوعي الديني لدى الشعوب ليس بالضرورة يساوي الوعي السياسي، فالوعي الديني محدود بالعبادات والأحكام والأصول والفروع التي يمارسها كل فرد بشكل يومي، بينما الوعي السياسي مفهوم يتجاوز الفرد نحو المجتمع والاقتصاد والعلاقات مع العالم وهذا ما لا يدركه الشارع العربي الإسلامي بشكل مباشر.
المشاركة، والتجربة السياسية للأحزاب الإسلامية تبلورتا في مصطلح يمكن أن نطلق عليه "المشاركة الناعمة" التي ركزت على القضايا الاجتماعية والخيرية وهذا النهج من المشاركة ارتبط بما يسمى الصحوة الإسلامية التي اجتاحت العالم العربي خلال العقود الأربعة الماضية.
الحقيقة التي يجب أن تدركها الأحزاب الإسلامية أنها بمشاركتها السياسية الناعمة من خلال العمل الخيري والاجتماعي هي التي ساهمت بتأجيل هذه الثورات لأنها تكفلت بردع القوة الاجتماعية في دول الثورات عن المطالبة بحقوقها السياسية تحت مسلّمات وضغط العمل الخيري الإسلامي لذلك لابد من القول إن الأحزاب الإسلامية اليوم سوف تكتشف أنها تأخرت كثيرا في فهم ما يجري حولها وهذا ما سوف يجعلها أمام خيارات الإتيان بكل ما وعدت به من حلول موعودة للمجتمع، أو الانقلاب على كل وعودها والسير وفقا لقواعد اللعبة السياسية المحلية الدولية، واكتشاف الأخطاء في نهجها السياسي، وتطوير مفاهيم وتكييف مقومات العمل السياسي، وإيجاد حلول تاريخية وحاضرة لفك معادلة الإسلام والسياسة..
بعد كل هذه الخيارات لن يبقى سوى آلية واحدة يمكن أن يتم استخدامها من أجل استيعاب المنهج والايديولوجيا والأفكار القائمة وتكمن في تلك المقولة الشهيرة إما أن تأخذه كله أو تتركه كله..
فهل نحن قادمون نحو هذا الزمن أم سوف تفاجئنا السياسة بقدرتها على أن تحول الأيديولوجيات إلى منهجيات براغماتية مرنة وطرية؟