كما أن التسامح قيمة أخلاقية راقية وسامية فإن الحقد هو النقيض الهابط لهذه القيمة. ومن المؤكد أن واقعنا المحلي والعربي والعالمي يشكو من غياب التسامح ويفسح المجال للحقد والتعصّب وما يترتّب على انتشارهما من تنامي الصراعات السياسية والاقتصادية واتساع دائرة المآسي والمجازر والحروب لتشمل جميع البشر دون تمييز، وتكاد تضع الأخ وأخاه والأب وابنه في مواجهات مؤلمة وحادّة. والسبب الأوضح لذلك أن بعض النافذين قد تخلوا باختيارهم وبإرادتهم عن كل قيمة نبيلة في الوجود، وقادتهم المطامع إلى هذه الحالة غير المسبوقة والتي من شأنها أن تُودي بالجميع إلى مصير يصعب التكهّن بنتائجه المؤسفة. ولا يظن الذين يأخذون موقف المتفرّج مما يحدث – حتى الآن – من أبناء الأمة العربية أنهم سيظلون في منأى عن اتساع دوائر الحقد والاحتراب المحزن، فالأيام المقبلة تدّخر لهم النصيب الأوفر، وتعدهم بمواجهات حتمية إن لم تكن من الداخل فمن الخارج الذي يرى فيما يحدث فرصة سانحة ينبغي له أن يستغلّها وبأسرع وقت ممكن.
وبما أن الحقد ليس من طبيعة البشر الأسوياء، وهو نوع من المرض لا يُصيب سوى القلوب الداكنة، القلوب المظلمة التي جُبلت على الشر، وكانت بطبيعتها لا تعرف الخير أبداً، فإن الأمل معقود على أولئك الذين تُساعدهم طبائعهم السوية على أن يغسلوا قلوبهم كل يوم من الأحقاد والضغائن. وهكذا كان معلمنا الكبير يقول لنا منذ خمسين عاماً ونحن نلتف حوله بحنان ونُصغي إليه وهو يقرأ لنا من كتاب (الأخلاق) ذلك الكتاب الذي لم يكن يحرص على قراءته أو اقتنائه سوى عدد قليل من معاصريه الطيّبين. أما الغالبية فقد كانت لا تهرب من قراءة كتاب (الأخلاق) فحسب، بل وتهرب من كلمة الأخلاق ذاتها وترى فيها عائقاً عن الوصول إلى حيث تُريد أن تصل ولو على جثت المبادئ والناس. وعلى الرغم من الهزائم المريرة التي قابلت بها هذه الغالبية من الحاقدين والخائفين، كلمة الأخلاق، فإنهم لا يعتبرون ولا يُغيّرون من أساليبهم وطرائقهم في الحياة وفي التعامل مع الناس، كأن الطبع قد غلب التطبّع كما قال الحكماء.
أجمل الكلمات التي لم يكن معلمنا الكبير رحمه الله يسأم من ترديدها هي "إن طاقة الحقد تُدمّر صاحبها"، ومن المُؤكّد أنها لم تحمل أحداً إلى المكان أو المكانة التي يُريد الوصول إليها، وعلى العكس من ذلك فإن طاقة الصفح هي وحدها التي تفعل ذلك لأنها تمتلك أجنحة من نور المحبّة تجعلها قادرة على العبور بالأنقياء وتلاميذ الصفح والتسامح إلى أعلى الدرجات، وتمنحهم أرقى الأوسمة حتى وإن لم تظهر على صدورهم أو تزهو بها جدران منازلهم فإنها تضيء قلوبهم وتُنير لهم الطريق الصحيح بعيداً عن العداوات ومتاهات الانتقام والانتقام المضاد، وما يشعرون به من سعادة في أعماقهم يُساوي كل ما على وجه الأرض من أموال، وكل ما في عالم الأمجاد الزائفة من وجاهات مُؤقتّة سرعان ما يتكشّف زيفها ويتحدّد على كل صعيد خسرانها.
لست واعظاً، وإن كان الزمن يفرض على كل كاتب على وجه هذه الأرض أن يُعيد إلى أذهان الناس وعقولهم بعض المواعظ التي اندثرت باندثار القدوة الحسنة، وإن يقول للشباب والكهول على حدٍّ سواء إن بناء الأمم يأتي أولاً من بناء القيم الأخلاقية والسلوكية، ومن احترام الآخرين والإغراق في حب الوطن والابتعاد عن سلب إمكاناته المادية والتآمر على مصالحه العامة. وما أولئك اللصوص الذين سرقوا الاقتصاد العالمي ووضعوا العالم كله على حافة كارثة اقتصادية مدمّرة سوى جماعة تخلّت عن القيم وتحدَّت القوانين، علماً بأن القوانين ما هي في مجموعها سوى منظومة أخلاقية تحمي المال العام بالقدر نفسه الذي تحمي به المال الخاص، وتحمي الأرواح وتُدين الإجرام بكل أشكاله ومستوياته، وتضبط مسيرة العدالة بين البشر.
ومن هنا فلا يزال في إمكان الكلمة أن تُغيّر وأن تعمل على إنقاذ كثير من الواقعين في شباك الغواية المادية والسلطوية، غواية كسب المال الحرام، أو استغلال السلطة حتى في حدّها الأدنى في استقطاب النفوذ غير المشروع. وكان يُمكن للكلمة أن تُخلّص البشر من الشباك التي تترصّدهم وتُغويهم لو لم تتحوّل في قبضة "الميديا" إلى مادة إعلامية وإعلانية افتقدتها قدرتها على التأثير وقدرتها على التغيير، وكان وجود قناة فضائية واحدة تكفي لجمع شتات الأمة وتوحيد خطاها على الطريق الصحيح نحو المستقبل المشترك .
تأملات شعرية :
أيها الحقد:
يا طاقة الكائنات المريضة
يا شبح الخوف والرعب
هل آن أن تترجّل،
أن تدع الأرض تخرج
من ليل هذا الخصام العنودْ؟
أيها الصفح:
يا طاقة الكائنات النقيّة
يا راية الحب والعدل
هذا أوانك،
دع طاقة الحب
تملأ وجدان هذا الوجود.
جريدة الراية القطرية