امتداد التجمُّع الاقتصادي العولمي في دافوس، الذي انعقد كمؤتمر إقليمي على ضفاف البحر الميٍّت، غابت عنه كالعادة الجوانب التي لا يريد قادته أن يتعامل معها لأنّها ستصطدم مع تحفظات هذه الجهة أو غضب تلك. فاجتماعات دافوس واجتماعات مواليدها يجب أن تبدو غير منقسمة ولا متحاربة حتى يقتنع العالم بأنها مصدر الحكمة ومحطًّ السموِّ الاجتماعي.
لقد ركزت مداخلات البحر الميٍّت، وهي تنظر إلى المشهد الاقتصادي العربي إبَّان ثورات ربيع العرب، ركزت على جانب تراجع النشاط الاقتصادي العربي المصاحب للأحداث العربية الهائلة، وعلى نتائج ذلك التراجع المتمثّل في ارتفاع نسب البطالة بين الشباب إلى حدود الإنذار باضطرابات مجتمعية قادمة في غالبية بلدان العرب، وبالطبع فالهدف الخفي وراء ذلك التحليل هو غمز ولمز الحركات السياسية الجماهيرية العربية.
وكالعادة قدًّم الكثيرون، من المستمتعين بدفء وهدوء أمواج البحر الميت، الحلَّ السحري الشافي لهذه المشكلة، وهو أن يسعى الجميع إلى اجتذاب الاستثمارات الأجنبية من أجل تنشيط الاقتصاد العربي وبالتالي خفض نسب البطالة، ولما كان الصباح قد حلَّ فإن شهرزاد توقفت عن الكلام المباح إلى حين مناسبة أخرى. لكن دعنا نقوم نحن بمحاولة تكملة القصة وتعريتها.
أولاً – لم تقم في تاريخ البشرية ثورات لم يصاحبها اضطراب وركود اقتصادي مؤقت، وهذا ثمن مقبول دفعته كل المجتمعات التي قررت ونفذَّت المواجهة الجذرية الشاملة لما اعترى حياتها من ظلم وفساد واستبداد من قبل أقلية لا رحمة في قلبها ولا ضمير يحاسبها.
لكن الثورات الناجحة تجعل ذلك الاضطراب الاقتصادي لا يمتدُّ إلى أكثر من فترة انتقالية محدودة تعقبها فترة انتعاش حقيقي يوزّع خيراته على الجميع وبعدالة إنسانية معقولة.
ثانياً – لو أن تلك الاجتماعات الاقتصادية العولمية صادقة مع ربِّها ومع نفسها لوجَّهت الغمز واللَّمز والتقريع لغالبية من يحضرونها من الاقتصاديين والسياسيين، فهؤلاء هم من أوصلوا المجتمعات العربية إلى حدود الانفجارات الثورية الكبرى بسبب أنانيَّتهم المفرطة وجشعهم للكسب السريع على حساب الآخرين أو لتركيز ثروات المجتمع في أيديهم بصور لا تقبلها الأخلاق الإنسانية الرفيعة ولامبادئ العدالة. لقد قلبوا مجتمعاتهم إلى شركات نهب و(فهلوة) من خلال بناء حلف شيطاني بين المال والسياسة، فأصبح المال يشتري النفوذ السياسي، وأصبح المركز السياسي يؤدّي إلى الاستحواذ على ثروة المال.
ثالثاً – حتى الثروة المالية التي جمعوها استثمروها خارج بلدانهم، تارة لإنقاذ شركات أجنبية متعثّرة وتارة للحصول على مكاسب مالية انتهازية سريعة. وكانوا في جميع الأحوال يساهمون في إنعاش اقتصاديات لآخرين مقابل إفقار اقتصاديات مجتمعاتهم، وبالتالي كانوا أدوات تخفيض لنسب البطالة بين شباب مجتمعات الغير وأدوات ارتفاع لنسب البطالة في مجتمعاتهم العربية.
ولذلك كان مضحكاً أن يتحدث المتحدثون عن ضرورة اجتذاب الاستثمارات الأجنبية لحلِّ الإشكاليات الاقتصادية العربية الحالية ويتناسون أن أكثر من ألف وخمسمئة مليار دولار من المال العربي الخاص والعام مستثمر في بنوك وشركات وعقارات وسندات أوروبا والولايات المتحدة الأميركية. لو أن المجتمعين، وأكثرهم من أصحاب القرار في الاقتصاد والسياسة وفي ساحتي العام والخاص، كانوا يريدون حلولاً تصعد فوق التمنيات الفارغة وكلمات العلاقات العامة التي لا تغني ولا تسمن من جوع، لاتخذوا قراراً واحداً وهو الإقدام على خطوات تنفيذية لإرجاع المال العربي من وراء البحار والمحيطات إلى حيث يجب أن يكون: إلى أرض العرب.
رابعاً – لقد امتلأت قاعات الاجتماعات بخبراء دول أوروبا وأميركا والصِّين وغيرها لتقديم المشورة إلى رجال السياسة والاقتصاد العرب المجتمعين على ضفاف البحر الميّت، ولكن هل حقّاً أن هؤلاء يستطيعون تقديم المشورة وجلُّهم من الذين تلطخت أياديهم بدماء ودموع ضحايا الكوارث الاقتصادية والمالية العولمية التي هزَّت العالم منذ العام 2008. والتي لاتزال آثارها الكارثية تنخر حياة الملايين من ساكني الأرض؟ وإذا كان لدى أولئك الخبراء حلول فليقدموها إلى أوروبا التي تواجه أكبر معضلة مالية في تاريخها أو لأميركا التي تتضاءل قدراتها الاقتصادية والمالية والسياسية والعسكرية يوماً بعد يوم، بل ليقدموها لحلِّ إشكاليات النظام الرأسمالي العولمي المتوحّش الذي يتخبَّط في أخطائه وخطاياه وجنونه.
المطلوب ممَّن سيجتمعون في المستقبل، إن كانت قلوبهم ترأف بهذه الأمة وعيونهم قادرة على ذرف الدموع على ألوف الضحايا الذين سقطوا في ساحات وشوارع عشرات المدن العربية، المطلوب هو أن يقتنعوا بأن الأزمنة قد تبدلت ومعها يجب أن تتبدّل الحلول، الحلول التي تستند إلى قيم العدالة والأخوة الإنسانية والإلتزام الأخلاقي بحقوق العباد