لم تكن الأجواء السياسية في مصر مواتية أبداً للحملة التي أطلقتها تلك المجموعة الغاضبة التي استلهمت من النازية اسمها «مصر فوق الجميع»، وخرجت تدعو للمشير طنطاوي رئيساً للجمهورية، فقد بدت الحملة متناقضة تماماً مع المظاهرات التي تجوب الشوارع كل يوم والتعليقات التي تسود شاشات التليفزيون في المساء منددة بطريقة المجلس العسكري في إدارة شؤون البلاد..

ومع ذلك فقد وزعت الحملة ملصقاتها التي تحمل صورة المشير ببدلته العسكرية في أماكن ظاهرة في وسط القاهرة والإسكندرية تحت شعار «مطلب شعبي للاستقرار»، وراح منسقها المغمور محمود عطية يتحدث باسم ما سماه الكتلة الصامتة التي زعم أنها فقدت الثقة في مرشحي الرئاسة المحتملين وفي النخبة السياسية وفي حركات الاحتجاج التي اتهمها بأنها ممولة من الخارج، ولم يعد لها أمل غير المشير..

بادر متحدث عسكري بنفي أي علاقة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة بالحملة، وأكد أن المجلس ملزم بتسليم السلطة للمدنيين بعد انتخابات الشعب والشورى والرئاسة.. إلا أن التصريح لم يشف غليل كثيرين، خاصة الذين فقدوا الثقة في المجلس واعتبروه الخصم المستتر للثورة.. وعاد بعض هؤلاء بذاكرتهم إلى الحدث الذي شغل الناس منذ شهر مضى، عندما نزل المشير لأول مرة للتجول في وسط العاصمة ببدلة مدنية.. وقتها قال مصدر عسكري إن طنطاوي كان في زيارة خاصة، وإنه نزل بعدها دون حراسة لكي يطمئن الشعب على أمان الشارع المصري..

لم يصدق كثيرون المتحدث العسكري في تصريحه الأول أو في تصريحه الثاني.. الناس مسكونون بوساوس أن المجلس العسكري لن يترك السلطة، ليس فقط لأن الفترة الانتقالية طالت بأكثر من الشهور الستة المقررة، أو لأن عضواً بالمجلس أعلن صراحة أنها ستمتد إلى عام 2013، ولكن لأن المجلس يدير الأمور في سرية أشبه بطقوس خلية ماسونية دون التشاور مع أي أطراف سياسية أخرى إلا بما تتطلبه دواعي العلاقات العامة ومناسبات التقاط الصور..

مع ذلك فإن مقربين من المشير طنطاوي الذي يبلغ من العمر الآن 76 عاماً، والذي شارك في كل الحروب التي خاضها الشعب المصري، يجزمون أنه عازف عن السلطة تماماً، وأنه يتطلع إلى اليوم الذي يسلم فيه قياد البلاد لشخصية منتخبة من قبل الشعب.. ورغم أن كثيرين يمكنهم أن يتقبلوا هذا الرأي إلا أن أحداً لا يثق في أن المجلس العسكري سينسحب تماماً من المشهد السياسي، ويرجح هؤلاء أن المجلس سيحاول أن ينتزع لنفسه مكانة خاصة في النظام الديمقراطي المفترض المقبل، والبعض يتوجس أن المجلس يمكن أن يدفع في اللحظة قبل الأخيرة بمرشح للرئاسة من الضباط الكبار المحالين للمعاش..

ثمة فريق من الضباط يرون الآن أن مصر لاتزال في حاجة لرئيس عسكري، ليس فقط بسبب الفوضى التي اجتاحت البلاد، والتي يرون أنها تحتاج لكثير من الضبط والربط الذي لا يتوافر إلا للعسكر، ولكن أيضاً لأن مصر دولة مواجهة لا يجب أن تستبعد حرباً قادمة تتزايد احتمالاتها مع تنامي مشاعر المصريين العدائية لإسرائيل بعد الثورة.. ويتناسى هذا الفريق عادة الأمثلة العديدة لدول مختلفة حاربت تحت قيادة رؤساء مدنيين، مثل بريطانيا التي شاركت في الحرب العالمية الثانية بقيادة تشرشل وفي حرب فوكلاند بقيادة تاتشر، أو فرنسا التي خاضت حروباً صغيرة عديدة في أفريقيا، أو تركيا عندما غزت قبرص.. وبالطبع فإن هؤلاء يغفلون أيضاً أن غالبية وزراء الدفاع في الدول الديمقراطية ساسة مدنيون، بل إن هذه الوزارة أحياناً ما تولاها نساء، قامت إحداهن، وهى وزيرة دفاع إسبانيا السابقة، باستعراض حرس شرف من جنودها وهى حامل..

المؤكد أن الفريق أحمد شفيق، آخر رئيس وزراء عينه مبارك، يعرف هذا جيداً، ولكنه عندما أعلن منذ أيام أنه سيرشح نفسه لانتخابات الرئاسة حرص على أن يذكرنا بأمجاد أيزنهاور وديجول وأن ينبه أنه ليس من حق أحد منع العسكريين من خوض هذه الانتخابات، وهكذا فإن لم يظهر ضابط جيش جديد على المسرح فسوف يصبح العسكريون الذين يخوضون هذه التجربة ثلاثة إذا أضفنا الفريق حتاتة، رئيس أركان الجيش الأسبق، واللواء بلال قائد القوة المصرية في حرب الخليج الثانية الذي تمرد على «مبارك» أثناء الحرب وطلب إعفاءه من مهمته.

لكنه مهما اختلفت مشاعر المصريين تجاه شفيق الأقرب إلى مبارك، أو بلال الأبعد عنه، فالمرجح أن النخبة السياسية ستقود حرباً ضارية تجاه المرشحين العسكريين جميعاً، يتوقع أن تناصرها فيها جموع من الناس تواقة إلى مجتمع جديد تماماً، وتعارضها جموع أخرى متأثرة بحلم الاستقرار.. وسوف تكون الحالة الأمنية في البلاد أثناء انتخابات الرئاسة عاملاً مهماً في ترجيح كفة أحد الفريقين.

من هنا فإن طرح حملة «مصر فوق الجميع» لانتخاب المشير يجيء في وقت حساس للغاية.. ورغم أن البعض يعتبرونها موجة من موجات النفاق المألوفة، ويعتبرها آخرون على النقيض حملة رحب بها المشير إن لم يكن قد أوعز بها بنفسه، فهناك من يرجح أن تكون مجرد بالون اختبار نبتت فكرته لدى طرف غير معلوم الآن بالضرورة، وهناك من يجزم أنها دسيسة لمزيد من الوقيعة بين الشعب وبين المشير ومجلسه العسكري..

سواء كان الأمر على هذا النحو أو ذاك، فالمشير الآن مطالب بشخصه أن ينفي تطلعه إلى منصب رئيس الجمهورية.. ولن يجدي في ذلك إطلاق مزيد من التصريحات.. نحن ننتظر أن يصدر قرار بإزالة الملصقات على الفور، ودفع الحملة للغرامة المقررة في القانون بهذا الشأن، والتحقيق مع منسق الحملة لكشف ما وراءها من نوايا، وإعلان نتائج هذا التحقيق.. على أن الرد الجذري على الحملة المريبة في كل الأحوال هو أن يسلك المجلس في إدارة شؤون البلاد مسلكاً ديمقراطياً مسانداً للثورة على نحو لا يترك مجالا لشكوك.. هذا هو الامتحان