حصان طروادة تعبير دخل في المعجم السياسي العربي منذ فترة طويلة، ويعني تحديدا، استخدام وسائل مرئية لتحقيق هدف آخر غير مرئي. والتعبير يعود في الأصل لأسطورة إغريقية خلاصتها، أن الإغريق حاصروا مدينة طروادة لعشر سنوات،
لم يتمكنوا خلالها من فتحها. وأنهم ابتدعوا في نهاية المطاف حيلة جديدة مكنتهم من الدخول إلى المدينة. فقد أدخلوا من خلال بوابتها الرئيسية حصانا خشبيا ضخما أجوف، مليئا بالمحاربين الإغريق، وقبل الطرواديون "الهدية" الحصان على أنه بادرة حسن نية باتجاه تحقيق السلام. أما بقية الجيش الإغريقي المحاصر، فقد اختبأ بعيدا عن البوابة. احتفل الطرواديون برفع الحصار، وعندما خرج الإغريق من الحصان داخل المدينة في الليل، كان السكان ثملين من حالة الابتهاج، ففتح المحاربون الإغريق بوابات المدينة للسماح للجيش الإغريقي بدخولها، ودخل الجيش ونهب المدينة بلا رحمة، وقتل كل الرجال، وتم سبي النساء والأطفال.
لم يكن ممكنا الحديث من قبلنا، أو من قبل غيرنا، عن حصان طروادة، أثناء اشتعال ثورتي تونس ومصر. فقد انشغل الجميع بكرنفالات التغيير. وساد شعور عام لدى المواطن العربي، بأن الأمة وصلت إلى طريق مسدود في معالجة معظم قضاياها، وقد آن لها أن تمسك بزمام مقاديرها.
فلقد فشلت مشاريع التنمية، ومعها فشل مشروع العدل الاجتماعي، واتسعت الفروقات بين الغنى والفقر. وسادت في معظم البلدان الحربية أنظمة مستبدة، مارست قمع الحريات، وكممت الأفواه، وحاربت الاجتهاد والإبداع. ولم يكن دورها في مواجهة التحديات الخارجية، وبشكل خاص التحدي الاستيطاني الصهيوني، بأفضل من معالجتها لأوضاعها الداخلية.
ساد شعور إيجابي عام لدى المواطن العربي، بأنه لو لم يكن لثورات الشباب سوى تحريك المياه الراكدة، في الواقع العربي لكفاها ذلك. لكن تطور الأحداث، فيما بعد أفرز جملة من الحقائق، التي تجعل من المهم والضروري إعادة قراءة وتقييم ما جرى، من أحداث لا تزال تتداعى بقوة، في بقاع كثيرة من البلدان العربية، حتى هذه اللحظة، بروح نقدية.
أولى هذه الحقائق، هي الحديث عن دور مواقع التواصل الاجتماعي، فيسبوك وتويتر ويوتيوب. هل فعلا يزجى لهذه المواقع معظم التحولات التاريخية التي حدثت في بلداننا العربية في الأشهر الثلاثة الأخيرة؟. إن التسليم بذلك، من وجهة نظرنا، هو تسطيح بالغ الخطورة لفعل التاريخ. فالثورات الإنسانية، سابقة على منجزات ثورة الاتصالات. والتجربة التاريخية، تؤكد أن الفعل الإنساني، هو نتاج عمل تراكمي وجدلي، لا يسير وفق آلية أو تراتبية معينة. بمعنى استحالة استعارة أية تجربة إنسانية فوارة، وإعادة تكرارها مرة أخرى، في موقع آخر، وضمن بيئة مختلفة، حتى وإن بدت مشابهة، فليس للتاريخ أن يعاود خطاه بذات الآلية والميكانيكية والتراتبية.
قيل إن ثورات الشباب، براجماتية ولا تحمل شعارات أيديولوجية، أو برامج سياسية. وربما كان ذلك صحيحا بالنسبة للقوة التي لم يتصلب عودها. لكن ما حدث في مصر وتونس، ويحدث الآن في ليبيا واليمن، وبقية القائمة… يؤكد أن ذلك ليس صحيحا. فالذين تفاوضوا وحصدوا نتائج ما حدث هم قوى سياسية واضحة المعالم. طرح بعضها برامجه وأفكاره السياسية منذ أكثر من ثمانية عقود. وكان لهم حصة الأسد في نتائج التصويت على التعديلات الدستورية في مصر. وهم لا يترددون عن إقامة التحالفات مع الحزب الوطني، الذي حكم مصر في العقود الثلاثة الأخيرة. وقد أقاموا تحالفات مماثلة في الأربعينيات من القرن المنصرم، مع حكومة إسماعيل صدقي ضد التيار الليبرالي الذي مثله آنذاك حزب الوفد، ومع الملك فاروق في مصر، ونظام الرئيس عبدالناصر، بعد الثورة مباشرة. وبالمثل تحركوا في تونس باسم حركة النهضة. ويحاولون الآن أن يحصدوا نتائج الثورة التونسية، بالقفز إلى مقدمة الهيئات الصانعة للقرار السياسي في هذا البلد الشقيق.
في ليبيا، كما هو الحال في مصر وتونس، لم يعد الماسكون بزمام الأمور هم الشباب الذين أشعلوا جذوة الثورة، ولكنهم جبهة الإنقاذ وحزب العدالة الليبي ومجموعات منشقة عن العقيد. وقد كان لمعظم هؤلاء ارتباطات واضحة بالخارج، وبعضهم عمل مستشارا في منظمات غربية، من ضمنها محكمة الجنايات الدولية، وقد مكنهم ذلك من التنسيق والتعاون مع ما يعرف الآن بالتحالف الدولي، لضرب كتائب العقيد.
وتقوم ذات القوى الآن، تحت شعار الإصلاح والثورة بمحاولة القفز إلى مواقع السلطة في الأردن وسورية. أما اليمن فخارطة القوى السياسية وولاءاتها الإقليمية والدولية معروفة للجميع، ولا ضرورة للحديث بالتفصيل عنها. وليس سرا ضلوع الإدارة الأمريكية في مباحثات ووساطة بين الثوار ونظام الرئيس اليمني علي عبدالله صالح، لتأمين الانتقال السلمي للسلطة.
تأتي عواصف التغيير، بشكل مفاجئ، وسط غياب -غير ما هو مألوف- للهتافات الصاخبة التي اعتاد عليها الشارع العربي، الداعية بالموت لأمريكا وإسرائيل. والغريب، أن هذه الظاهرة أصبحت هي القاعدة، ولم تشذ عنها أية ثورة من الثورات العربية الأخيرة، حتى ضمن البلدان التي تقع على حدود التماس مع الكيان الغاصب، في وقت لا يزال الجيش الإسرائيلي يمارس سطوته وعربدته على أهلنا في الضفة الغربية وقطاع غزة، ويهدد بحرب لا تبقي ولا تذر في لبنان.
هل لنا أن نضع ما يجري ضمن استراتيجيات قديمة جرى الحديث عنها منذ منتصف السبعينيات من القرن المنصرم، وأعيد الحديث عنها بعد حرب الخليج الثانية، وبعثت بقوة بعد 11 سبتمبر عام 2001، حول إعادة تشكيل الخريطة السياسية للمنطقة بطرق دراماتيكية، ورسمت خرائط واستراتيجيات تفصيلية لها، من قبل معهد راند للدراسات الاستراتيجية، وصدرت في وثيقة شهيرة عرفت بالاستراتيجية الكبرى، أسماها وزير الدفاع الأمريكي السابق، دونالد رامسفيلد بالفوضى الخلاقة، ونعتتها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس بمخاض الولادة لشرق أوسط جديد.
ليست هذه القراءة رجما بالغيب، ولا إمعانا بالتسليم بنظرية المؤامرة، بل هي اتساق بالدقة مع ما يجري الآن، وليس علينا سوى الانتظار. وثورة الشباب والحال هذه، ليس لها من توصيف سوى أنها أحصنة طروادة جديدة، من نوع مغاير.