نعرف الآن عن الميادين وتاريخها أكثر مما كنا نعرف في أي وقت مضى، لم يخطر يوما على بالي أن أقضي ساعات اقرأ عن تخطيط المدن وأنا أبعد الناس عن فروع الهندسة كافة. حفزني على الإلمام بالموضوع نفس ما حفز الشخصيات الأجنبية التي ما إن وطأت أرض مطار القاهرة إلا وأفصحت عن رغبتها زيارة ميدان التحرير. سمعت عن كثيرين طلبوا أول ما طلبوا خريطة توضح موقع الميدان في العاصمة والطرق المؤدية له، وآخرون بحثوا عن كتيبات سياحية تلخص تاريخ هذا الميدان منذ نشأته وحتى يوم احتل فيه صدارة نشرات الأخبار في جميع أرجاء العالم.
مرت الأيام، وانتقلت الثورة من تونس ومصر إلى بلاد عربية أخرى، وأضاف الثوار إلى ميدان التحرير ميدان القائد ابراهيم في الإسكندرية وميدان الجيش في السويس ثم انضم إلى قائمة الميادين الثائرة ميدان التغيير في صنعاء ودوار اللؤلؤة في المنامة وساحات متنوعة في بنغازي.
****
كان لميدان المنشية في الإسكندرية مكانة خاصة في سنوات المراهقة. في البداية أثار انتباهي كمواطن قاهري ان أهل الإسكندرية كانوا يطلقون على الميدان كلمة، بياظة، وأصلها في الإيطالية بياتزا وكاد ميدان المنشية يكون الوحيد بين ميادين الإسكندرية الذي يحمل لقب البياظة، ربما لأنه أهم وأوسع ميادين الإسكندرية ولأنه الأقرب إلى صرح الجندي المجهول الذي شيدته الجالية الإيطالية كنموذج مصغر للصرح الأكبر المقام في بياظة فينيسيا في مدينة روما. ومنذ ذلك الحين وأنا أبحث في المدن التي أزورها عن أهم ميدان فيها واسأل عن سبب أهميته والأحداث العظمى التي جرت فيه أو خرجت منه، فلا ميدان عرفت أو زرت إلا وخلف آثارا واضحة في تاريخ مدينته وبلده.
كان ميدان الاستقلال بنيودلهي، أول ميدان عظيم الاتساع أراه خارج مصر. كان يوما مشهودا حين دعيت لحضور الاحتفال بعيد استقلال الهند فكل ما في العرض العسكري ينشر البهجة ويفرض بشكل خاص الاعجاب بروعة الهندسة المغولية الإسلامية في اندماجها بالعمارة الهندوسية مكسوة بلون حمرة الشفق. رأيت في هذا الميدان كيف يمكن لتناقض الشرق والغرب ان يكون بديعا، حيث موسيقى القرب يعزفها عازفون هنود في زي مغولي يمتطون أفيالا هي الأخرى مرتدية زيا مزركشا بألوان مبهرة.
وفي بكين، عاصمة الصين، وجدت الميدان الرئيسي أوسع من ميدان الاستقلال في نيودلهي، ولكن يعكس تناسق الحاضر بالماضي، الحاضر شيوعي والماضي امبراطوري. الحاضر في الميدان.. آلاف مؤلفة من راكبي الدراجات في الزى الأزرق، رمز العمل والعرق، يمرون أمام قصر الصين، أو بمعنى أدق مجموعة البيوت الصغيرة الممتدة بسقوفها الشهيرة، وهى التي كان يسكنها قبل مائة عام البلاط الامبراطوري.
هناك أيضا في الميدان لم تفتني مشاهدة عرض اشترك فيه مليون أو أكثر من أفراد الجيش والبحرية ومن العمال والفلاحين وكبار السن والشباب والأطفال.. وفي آخر العرض يسير عامة الشعب. في هذا الميدان، ميدان تينامين، نشبت ثورة الشباب في عام 2002، وفيه التقطت الصورة الشهيرة لشاب يقف أمام دبابة ويمنعها من التقدم، ومن هذه الصورة التقط شاب مصري الفكرة ونفذها في ميدان التحرير بالقاهرة، ولكن أمام سيارة شرطة مجهزة بمدافع مياه لتفريق المتظاهرين.