ما إن تخرج جماهير الشعب في أي مدينة عربية لطرح مظالمها أو شعارات مطالبها المعيشية أو السياسية حتى تجد نفسها محاطة بشتى التهم الجارحة لوطنيتها أو بقراءات خاطئة لنياتها أو بجرها إلى متاهات لم تخطر قط على بال من قاموا بتلك المظاهرات الاحتجاجية. إنها لعبة خلط الأوراق لإشغال المتظاهرين بقضايا جانبية لا تمت بصلة إلى موضوع تظاهرهم، ولزرع بذور الشك في قلوب المتعاطفين مع المطالب المطروحة، ولاستعداء الدولة والدول الأخرى من خلال طرح مخاوف متخيلة أو مبالغ فيها.
تتركز حملات التشكيك والاتهامات في ثلاثة خطابات تتكرر في كل المشاهد الثورية أو الاحتجاجية العربية. الخطاب الأول يشير بأصابع الاتهام إلى قادة وجماهير الاحتجاج من أنهم يتحركون بتوجيهات أو بتأثيرات من قبل دول أجنبية خارجية، وأحياناً يشتط خطاب الاتهام ليصم حركة الثورة أو الاحتجاج بعدم الولاء للوطن وبالعمالة للخارج. وتتكرر ذات الأسماء حسب موقع بلد الاحتجاجات وحسب معادلات الظروف الإقليمية والدولية. وما من شك في أن مثل تلك الاتهامات هي في الأساس تشكيك في قدرة الشعوب على أن تكون لها إرادتها السياسية المستقلة واعتبار المحتجين خرافاً يسوقها هذا الراعي أو ذاك.
الخطاب الثاني يتعلق باستعمالٍ متعمد للتنوعات الاجتماعية، من مثل المذهبية أو الدينية أو اللغوية أو القبلية، لتفسير ما يحدث من حراك سياسي ثوري أو احتجاجي. بعض البلدان تصبح القضية عبارة عن محاولة طائفة معينة الهيمنة على طائفة أخرى، بينما في بعضها الآخر يضرب على وتر تهميش دين لدين آخر. فجأة تضيع المطالب الأساسية ليحل محلها النزاع حول حجم قطعة الكعكة التي سيكسبها هذا الطرف أو ذاك. وحيث تغيب مفاهيم المواطنة وتساويها أمام القانون وفي الفرص الحياتية المختلفة يسهل الحديث عن المحاصصات بين الطوائف والقبائل والأعراق لجعلها فزاعة تجهض أو تشوه كل حراك سياسي وطني مشترك. وللأسف فما أن تختلط الأوراق الوطنية بالأوراق الطائفية حتى ينبري المتعصبون من الجهتين بإيقاظ أحلام مريضة سابقة بشأن الخلافات والصراعات لينسوا الناس واقع المشترك الكبير وضرورة رفع وحدة الوطن فوق الجميع.
الخطاب الثالث ينطلق من هلع مريض متجذر في الحياة السياسية العربية، سببه الاعتقاد بعدم إمكانية حشود الجماهير العربية في التعبير عن نفسها وعن مطالبها تعبيراً سلميا. وينبع هذا الاعتقاد من ممارسة السلطات العربية، عبر قرون من الزمن، بقمع أي مظاهرة معارضة للحكم مهما كانت سلميتها بدعوى أنها قد تتطور لتمارس العنف، وبالتالي تصبح خطراً على سلام المجتمع. ومع أن جميع دساتير الأقطار العربية تؤكد حرية التعبير السلمي، والمظاهرات هي نوع من التعبير، فإن الإنسان يشاهد عبر الأرض العربية كلها استنفاراً هائلاً لقوى الشغب الأمنية لتقمع المظاهرات في دقائقها الأولى بحجة أنها خروج على السلطة والنظام.
بسبب تلك الممارسات الأمنية الرسمية الخاطئة تكونت في نفوس المواطنين العاديين وفي عقلية السلطة السياسية الرسمية ثقافة الخوف من كل تعبير سياسي جمعي. من هنا المفارقة المفجعة بين مشاهد المظاهرات في الدول الديموقراطية وهي تخرج محروسة من قبل قوات الأمن حتى تنتهي من التعبير عن نفسها وبين مشاهد المظاهرات في بلاد العرب وهي في حرب شوارع موجعة غير متكافئة مع قوات أمن مدججة بالأسلحة وبكل وسائل البطش.
إن خلط الأوراق بتلك الصور الخبيثة تنتهي بمواجهة، أو أحياناً حوار، بين مجتمع منقسم على نفسه وغير قادر على تركيز أفكاره في مطالب واضحة متناغمة مشتركة، وبين سلطة دولة موحدة قادرة على المناورة وتأجيج الخلافات فيما بين مكونات المجتمع من أجل جعل المطالب صورية أو جعلها تعالج سطح الأمور بدلاً من الغوص في أعماقها ومعالجة جذور المشاكل.
من هنا الأهمية الكبرى لكل ثورات أو احتجاجات الشباب العربي في كل قطر عربي الاتفاق منذ البداية على تبنّي منطلقات أربعة أساسية: الرفض القاطع لأي طرح فئوي، سواء أكان طائفياً مذهبياً أم دينياً أم قبليا، وعدم الالتفات إلى الخارج، سواء أكان مباركاً أم معارضا، والتشبث بالسلمية التامة مهما كانت الاستفزازات التي قد تواجهها، وأخيراً العمل من أجل أن تكون المطالب وطنية مشتركة حتى تنتهي بأن تكون الثورة أو حركة الاحتجاج ملكاً للغالبية الساحقة من قوى المجتمع المدني بكل أطيافها وتوجلاهاتها. هذه المنطلقات الأربعة ليست مؤقتة ولا تكتيكية، إنها منطلقات سيحتاج المشهد السياسي العربي إلى الاسترشاد بها وممارستها عبر مسيرته الطويلة الشاقة نحو الانتقال الديموقراطي لن تكون الديموقراطية التي تهدف كل التحركات الشبابية العربية الحالية الوصول إليها أحد الحلول الكبرى لتبديد ظلام التخلف الذي عاش فيه العرب عبر القرون مالم تبن على مثل هذه المنطلقات منذ البداية وطوال المسيرة الطويلة نحو الوصول إلى تلك الديموقراطية. ذلك أن المسيرة النضالية غير الديموقراطية لا يمكن أن توصل إلى ديموقراطية عادلة شاملة إنسانية حقيقية. إنها ستوصل إلى ديموقراطية مشوهة غير قابلة للحياة. الوسائل يجب أن تتناغم وتنسجم مع الأهداف، والتناقض فيما بينهما سينتهي بلعبة عبثية لا تستـأهل التعب والتضحيات.
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.