فاجأت الثورتان التونسية والمصرية الجميع، بات ذلك في حكم اليقين العام. لم يكن للحدثين مقدمات أرعدت، أو حتى أرهصت، لتستنفر الانتباه والانتظار. جرت الأمور في البلدين وكأنها من دون مقدمات (معلومة على الأقل). لا غرابة إذن إن كان الاهتمام بحوادث الثورتين
– والأولى منهما خاصة – فاتراً في الأيام الأولى قبل أن يصبح وطيسه حامياً حين بدأ توازن النظام يهتز وأركان قوته تترنح تحت ضغط زحف الثورة اليومي. وما إن وقعت الواقعة في تونس، وأعقبتها مظاهرات مصر – بعد عشرة أيام من انتصار الأولى – حتى ارتفع مؤشر الاهتمام بما يجري من وقائع الاحتجاج الشعبي العارم. لم يعد أحد من المتفاجئين متفاجئاً، الثورة في مصر ذاهبة إلى نهايتها الحتمية: النصر. في لحظة قصيرة من الزمن، لا تتجاوز شهراً، انتقلنا من حال المفاجأة، وعدم التوقع، والذهول، إلى اليقين بحتمية انتصار الثورة الثانية (لمجرد أن الأولى انتصرت)، ثم لم نلبث أن انتقلنا – بعد انتصار الثانية – إلى اليقين بحتمية انتصار الثورة في الوطن العربي كله أو قسم كبير منه.
ليست المناسبة مناسبة شك في إمكان قيام الثورة ونجاحها في أمكنة أخرى من الجغرافيا العربية، لكن القطع بأن ذلك أمر حتمي لا ريب فيه ضرب من اليقين الميتافيزيقي نعوض به عن التحليل والتشخيص والتوقع، ويخشى من أن يزدهر وتتكرس مفرداته في الخطاب السياسي فيمنعنا ذلك من ممارسة المسؤولية الفكرية عن فهم ما يجري أو قد يجري. فالثابت أن وعينا بما وقع مازال اليوم، وحتى إشعار آخر، في طور الذهول، وفي حال لا يمكن الخروج منها إلا بالفهم العلمي – التاريخي لما حصل، أما الذهاب إلى اليقين الحتموي، فقفزة في الهواء وقفز على المطلوب.
ليس يضيرنا في شيء أننا لم نتوقع حصول ثورة في تونس ومصر، وليس العجز عن ذلك مما يقدح في عقل النخب المثقفة والسياسية العربية، ذلك أن القدرة على الاستشراف والتوقع – وإن ارتفع معدلها بتدخل عوامل القياس العلمي – لا تطابق دائماً احتمالات الواقع الموضوعي ومفاجآته غير القابلة، دائماً، للقياس والتكميم، فالثورة “مثل الميّ” لا أحد يملك أن يرد تدفقه كما تقول عبارة نبيهة في إحدى مسرحيات الرحابنة – فيروز، ولا أحد يملك أن يتنبأ بالمدى الذي قد يكون في وسع ذلك التدفق أن يبلغه، أو النتائج التي يمكن أن يستجرها وتنجم منه. وقد تكون المقدمات مرهصة، بل واضحة ومعلومة، لدى من يتابعون الأوضاع ويقرأونها هنا وهناك، لكن المقدمات ليست دائماً بمفضية إلى نتائج تنجم منها على وجه الحتم. كما قد تكون مجهولة أو غير بادية لمن يقرأ ويراقب، لكنها – في لحظة عدم التوقع – تفاجئه وترمي بوعيه في حال من الذهول… على نحو ما فعلت بوعينا ثورتا تونس ومصر المجيدتان.
ليست حالنا، نحن الشعوب والنخب غير الحاكمة، مع هذا العجز الفادح في التوقع أسوأ من حال النظم الحاكمة. لم تكن أحزابنا ونقاباتنا ونخبنا ومراكز الدراسات الأكاديمية عندنا وحدها من فوجئ بالثورة ووقف أمام سيلها الجارف مذهولاً، أنظمتنا السياسية وأجهزتها الأمنية والاستخبارية شاطرتنا العجز نفسه والتوقع. لكن اللبيب يدرك حجم الفارق بين عجز المجتمع وعجز السلطة في توقع الأحداث. فبينما تملك السلطة المعلومات ومصادر المعلومات، ويفرض عليها موقعها السياسي تحري الدقة في كل شأن يتصل بالسياسة والشأن العام، لا يوجد في حوزة المجتمع المدني ومؤسساته ومثقفيه غير النزر اليسير من المعلومات والكثير الكثير من الفرضيات التي قد تصدق أو لا تصدق. وعلى من يؤاخذ المعارضات على سوء تقدير الموقف أن يوزع المسؤولية على الجميع توزيعاً عادلاً، وحينها سيكتشف أن حصة النخب الحاكمة أعلى، وهي كذلك (أعلى) مرتين: مرة لأنها تملك من المعلومات، ومن القدرة على تحصيلها، أضعاف أضعاف ما تملكه المعارضات – البعيدة جداً عن مصادر تلك المعلومات – ومرة أخرى لأنها تدفع ثمن عجزها عن التوقع مضاعفاً: رأسها.
ولقد يهون أمر عجز النظم الحاكمة عن التوقع حين ندرك أن ذلك أيضاً مما ينطبق على غيرها من الدول الكبرى في العالم، ممن يملك من وسائل التقدير والتحسب ما لا يملكه مثل هذه النظم المتخلفة. يكفينا، في مثل هذا المعرض، أن نسوق مثلاً لذلك ولايات أمريكا المتحدة، فهذه الدولة العظمى، التي تحصي أنفاس العالم، وتمسح أقمارها الصناعية في الفضاء، وجواسيسها المشاة المنتشرون في العالم كله، الكرة الأرضية شبراً شبراً، وكانت استخباراتها تتباهى بأنها تستطيع أن تتعرف من الفضاء الخارجي على نوعية الملعقة والشوكة اللتين يستخدمهما الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، لم تقشع شيئاً مما يجري تحت الرماد في تونس ومصر، فأتت الثورتان تفاجئانها مثلما فاجأت الشعوب والمسؤولين في بلاد العرب أجمعين، حتى أن البيت الأبيض لم يخف امتعاضه من فشل استخباراته في معرفة الجنين الناشئ في الرحمين التونسي والمصري، وما جره عليه ذلك الفشل من تخبط بدا واضحاً في موقفه من ثورة تونس قبل أن يستدركه في الموقف من الثورة المصرية.
من الثورات ما يشبه السحب المؤذنة بالأمطار، وحتى ما يشبه الأعاصير، فيكون شأنها في حكم التوقع، ومنها ما يشبه الزلازل والبراكين المفاجئة لا يقبل التوقع، وثورتا تونس ومصر من هذا النوع الأخير. ليس من فرق كبير، إذن، بين قوانين الطبيعة وقوانين المجتمع سوى أن الثانية أعقد، أو أكثر استعصاء على التبين العلمي.