من تونس الخضراء، التي أسهمت في تكوين القومية العربية منذ أيام زنوبيا، إلى مصر «أم الدنيا» التي أسهمت في ترسيم الخطوات الأولى لمعالم التكوين المعرفي للقومية العربية، نسمع معزوفة الثورة العربية ترتفع ملعلعة في سماء العروبة. وهذا ما يبشِّر بأن الخير الوفير قادم، فالسماء العربية ملبَّدة بالغيوم الكثيفة المليئة بماء الإخصاب، وهي تمطر الآن لتروي الأرض التي جعلتها الأنظمة الرسمية قاحلة جدباء. إن فلاحي مصر وعمالها يغرسون زرعهم في القاهرة والسويس والإسكندرية والإسماعيلية و..و..، والعمل جار في كل مكان استقبالاً للموسم القادم، والويل لمن يقف بوجه ثورة كادحي «أم الدنيا»، الذين يُؤكلون اليوم على موائد الفاسدين وتجار «اقتصاد السوق»، فيقتسموهم مع حيتان الرأسمالية والصهيونية.
فإذا كانت مؤامرة بيع فلسطين قد أثارت الكرامة في نفوس ثوار مصر الأحرار، بقيادة الزعيم جمال عبد الناصر، فأنتجت ثورة يوليو بشعاراتها القومية، فإن ثورة يناير، التي تلوح في سماء مصر الآن، تأتي رداً أولياً بصورة مواجهة طبقية على تجار «اقتصاد السوق» المصريين الذي يحميهم نظام اتفاقية كامب ديفيد.
ولأن الترابط بين القومي والطبقي تمثل أهم مبادئ القومية العربية، كانت مؤامرة إسقاط الناصرية، بما هي حركة قومية أصيلة، مدخلاً لإسقاط القومية العربية، ومعها إسقاط أي حراك طبقي ضد استغلال التجار والسماسرة والوسطاء. وبهذه الإسقاطات تنفتح أبواب الوطن العربي أمام الرأسمالية الصهيو – أميركية.
لقد خُيِّل للذين أسقطوا الناصرية على وقع انتصارات حرب أوكتوبر، في العام 1973، أنهم أسقطوا مصر من خريطة الوطن العربي. ومن بعدها ناموا على فراش من حرير، وأطلقوا يد عملائهم ووسطائهم وسماسرتهم لتعيث فساداً وسرقة ونهباً في ثروة مصر، وأنشبوا أظافرهم في جسد العمال والفلاحين ليسرقوا آخر لقمة من أفواههم، ويمتصوا آخر نقطة دم من شرايينهم، وحصَّنوا أنفسهم بسياج من المخابرات ورجال الأمن. وحسبوا أن القبضة الحديدية ستحميهم ليبقوا متربعين على عروش الثروة والجاه إلى ما شاء الله.
لقد أطبق النظام المصري الحالي على أعناق جماهير مصر ليكتم أنفاسها ضد الإحساس بكرامتها بإيغاله في تطبيع العلاقات مع العدو الصهيوني من جهة، وليكمم أفواهها منعاً لاعتراضها على أي شيء حتى على غياب لقمة الخبز وفرصة العمل من جهة أخرى.
وكما كان الأمر في ثورة تونس، كانت الجماهير المصرية تعد نفسها للقيام بالثورة منذ زمن، وإن كانت حركتها بطيئة بالأمس فإنها اليوم بلغت من الرشد ما لا يدعها تعود إلى الوراء. وما نشهده اليوم من تمدد مظاهر الثورة خارج القاهرة ليس إلاَّ من دلائل بلوغها مرحلة اللا عودة إلى الوراء.
ونحن نقف على عتبات بركان قد انفجر، ولن تخمد ناره حتى يقذف حممه في وجه النظام الحالي، نرى أن ما صحَّ قوله في مناشدة الثورة في تونس على وجوب تأسيس مجلس حزبي وحركي وطني يقود الخطوات التي بلغتها الثورة في تونس، يصح قوله لقادة الحراك الشعبي في مصر. وما صحَّ قوله لحركة التحرر العربية بأن من واجبها مساندة ثورة تونس، يصح قوله بأن من واجبها أيضاً مساندة الحراك الشعبي في مصر. وما صحَّ قوله تجاه تونس ومصر يصح قوله في واجب مساندة كل ثورة شعبية مطلبية أكانت أم وطنية تندلع على أية أرض عربية يقوم بأودها الشعب العربي، خاصة أن الشعب الأردني يتململ، وهذه بدايات الثورة فيه تتحفز للانطلاق. هذا الأمر يقتضي العمل بكل جدية لتكوين الجبهة العربية المشاركة والمساندة للحراك الشعبي المتوجِّه نحو التغيير.
إن لموقع الحراك الشعبي في مصر، الذي يتجه بسرعة نحو اندلاع الثورة، خصوصية تميزه وتعطيه الأولوية بالاهتمام، هو أن الحراك الشعبي في مصر له خصوصية قومية وطبقية تفرضها موقع مصر في الصراع العربي – الصهيوني. فمن خصوصية الثورة في مصر أن عليها أن تقلب الطاولة على رؤوس كل من شاركوا واحتضنوا وحموا اتفاقية استسلام كامب ديفيد. وبمثل هذه النتيجة سيعود الحراك القومي الذي شهدته الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي إلى سابق عهده وتأثيره، ولن ترتاح مصر إلاَّ عندما تهدم هيكل الاستسلام على رؤوس أصحابه، فتصيب عصفورين اثنين بثورة واحدة: ثورة الثأر لكرامته القومية التي امتُهنت في كامب ديفيد، وكرامته كبشر باستلاب حقه بالعيش الكريم. وهذا ليس غريباً وبعيداً عن شعب مصر، لأن ما سُمِّيَ سلاماً استلب كرامة المصريين عندما سطا على واجبهم في احتضان قضية فلسطين من جهة، وأفاض عليهم بالجوع والفقر من جهة أخرى، وأناخ رقابهم للقمع البوليسي من جهة ثالثة.
مصر يا أم الدنيا في وادي النيل، ستعودين أماً للعرب وستبقين أماً لهم.
مصر يا أم الدنيا، يا أم عبد الناصر، هل يهان العربي إذا عدت إلى موقعك؟
مصر يا أم الدنيا هل ستشهدين ثورة أخرى شبيهة بثورة يوليو؟
تحية لمصر والمصريين يسيرون نحو تفجير ثورة يناير جنباً إلى جنب ثورة تونس.