أولا- السطو على الآثار
قد لا تصح مقولة: الإنسان يصنع التاريخ مثلما تصح إن التاريخ هو من يصنع الإنسان، فثروة كل منا الاجتماعية والثقافية والاقتصادية حصيلة تاريخية، وماضي كل منا هو الذي يؤهله لحاضره ومستقبله، وحاضر الشعوب هو حصيلة مسيرتها وتاريخها، فمستقبل الأمم رهن بماضيها وحاضرها، وليس منا من يستطيع أن يبدأ حياته من جديد مبتورة عن ماضيه وذاكرته التي صنعته.
ومثلما يغتال القهر والتعسف والتجبر الإنسان في تصفية جسدية تستلب الذاكرة وتغتال وتطمس معالم التاريخ، ولعل اغتيال الذاكرة أشد وقعا وأخطر أثرا، فهو اغتيال جماعي للإنسان والزمان والمكان والحضارة، ومنذ دخول المحتل يتعرض العراق الذي يعد مرقدا لأغنى الحضارات الإنسانية لسطو لم يشهد له التاريخ مثيلا، فالاغتيالات والتصفيات لم تقتصر على العقول النيرة المبدعة، وإنما سبقها سرقة وتدمير آثار الحضارات القديمة وشواهدها، بطريقة خطط لها ونفذت بوقت قياسي لطمس معالم تاريخه، ومنجزات شعبه العظيم، وإخراجه من التاريخ، كي تنشأ الأجيال بلا ذاكرة ويسهل احتواؤها وتوجيهها عكس مسيرة التاريخ ومعطياته القومية والوطنية.
إن مسلسل تصفية الذاكرة تضمن قائمة طويلة من الآثار لا تقل عددا عن أسماء الضحايا والشهداء من العلماء والأساتذة الأطباء والمحامين والمهندسين والطيارين والصحفيين وغيرهم، بدأت بنهب ثلاثة عشر متحفا، ومئة وخمسين موقعا أثريا وإفراغها من محتوياتها التراثية الغائرة في أعماق التاريخ البشري السحيق، وسرقة التحف و المقتنيات التاريخية النفيسة في محافظ البنوك المركزية دفعة واحدة خلال الأيام الأولى للغزو على يد منقبين وخبراء فنيين متخصصين كانوا يعرفون المخازن والممرات والصناديق أكثر مما يعرفها العاملون فيها.
ولكي تغطي قوات الاحتلال معالم جريمتها الكبرى في استلاب تاريخ العراق واغتيال ذاكرته التراثية، وضياع آثاره وثروته التي لا تعوض ولا تقدر بثمن، حمت السراق والجهلة وأغرتهم عن طريق مرافقيها من أفراد عصاباتها المأجورة بسرقة البنوك ومخازن الأغذية والمعدات وتجهيزات المؤسسات كالمستشفيات والمدارس وحتى ملاجئ الأيتام والمعوقين، وراحت تسلط الإعلام العالمي على ما يجري كأنه من طبيعة الشعب العراقي لتشوه صورة الشعب العراقي المتحضرة، بدسيستها الخسيسة وخطتها في إشاعة الفوضى والنهب والسلب، وتبرر لنفسها ما ارتكبته خلافا للشرعية الدولية، وتغطي جريمتها في سرقة وإتلاف الآثار العراقية، وكتب المكتبات ومخطوطاتها الثمينة، وهو ما لا تقوم به دول متحضرة لا عفوا ولا قصدا.
ولو لم تكن سرقة الآثار متعمدة، كيف استطاعت هذه الآثار عبور الحدود والبحار ووصلت عشرات الآلاف من القطع إلى صالات معارض البيع والمزاد التجارية العالمية ولاسيما في أمريكا؟ وكيف اختفى الثمين والنادر منها ليتسلل إلى بيوت كبار ضباط وساسة الدول الغازية وأثريائها، ولم تتمكن الشرطة العالمية والمنظمات النظيفة رغم مرور عشر سنوات إلا إعادة جزء يسير منها، ولك أن تقدر عدد القطع المهربة والمسروقة إذا علمت أن ما جمع وأعيد من الولايات المتحدة إلى العراق حتى نهاية العام الماضي بلغ خمسة عشر ألف قطعة أثرية، وست وثلاثين ألف قطعة من السعودية وسوريا والأردن، أربعة آلاف منها مختومة بختم المتحف العراقي، بعضها يعود إلى ما قبل ستة الاف سنة، وأعداد أخرى مماثلة أعيدت من مصر وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا وهولندا وتركيا. ويتشدق المسئولون كذبا بأنهم أعادوا ما يقرب من نصف القطع الأثرية المسروقة.
وتعد إسرائيل من بين أكثر الدول التي وصلت إليها القطع المهربة من الدول المجاورة على يد العملاء والجواسيس لضمان عدم عودتها ثانية على العراق، وبالفعل لم تقم بإعادة أي قطعة حتى الآن، فكما سطا الصهاينة على الأساطير العراقية القديمة في الخلق والتكوين في أور وبابل وأغريت وضمنوها في إسفارهم، يسعون اليوم لتشويه الحقائق بتجيير موادها وتأويلها لصالح السفر التوراتي والتلمودي لافتقارهم إلى تاريخ مادي موثق، أما إيران الجارة المسلمة الصديقة لنظم الحكم العراقية المستحدثة بالاحتلال فتصمت على غل وأحجمت حتى الآن عن إعادة أي قطعة آثار عراقية، فهي من تبنت السعي بكل ما في وسعها للقضاء على مستقبل العراقيين، وتكفلت أيضا بالقضاء على تاريخهم، ثم بماذا تفسر ما أعلن على لسان وزير الثقافة العراقي عن وجود ستمئة قطعة أثرية أكثرها من حبات المسابح الأثرية والأكواب الزجاجية في مخازن مكتب رئيس لم تعد إلى مخازنها بعد سنتين من إعادتها إلى العراق ثم ظلت الطريق بحسب وثائق ويكيليكس، وهذا الذي نذكره غيض من فيض وما خفي علينا أعظم، وإذا أشدنا بتعاون اليونسكو في عودة جزء من المسروقات، فلم تول دوائر الإعلام العالمية بعد دورا فاعلا في الكشف عن هول هذه الجريمة التي ترتكب بحق بلد من أعرق بلاد العالم بحضارته وثروة آثاره الإنسانية، وللموضوع صلة وبقية.
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.