هل هي “العاصفة الكاملة” في لبنان؟
التطورات المتسارعة على الصعد كافة تشي بذلك، على رغم أن الأزمة السياسية لما تغادر إطارها السياسي – الدستوري. ليس بعد على الأقل.
وكما هو معروف، تعبير العاصفة الكاملة يعني في علم السياسة الآتي: “الحدث الذي تتقاطع فيه مجموعة نادرة من الظروف لمفاقمة وضع ما بشكل عنيف وقاسٍ”. وهذه الظروف متوافرة الأن داخلياً وخارجياً في لبنان.
على الصعيد المحلي، الاستقطاب الطائفي بلغ أوجه، بعد أن رفض تيار 14 آذار/ مارس قبول الانقلاب السياسي الذي نفذته قوى 8 آذار/ مارس، ودفع مناصريه إلى الشارع لتثبيت قول هذا الرفض بالفعل الشعبي. ويبقى الانتظار لمعرفة ما إذا كان الرئيس المُككلف الجديد نجيب ميقاتي سيكون قادراً على الصمود في وجه هذا التصعيد الشعبي في وجهه، خاصة في مدينته طرابلس.
لكن، حتى لو صمد ميقاتي، فإن لعبة تأليف حكومة وفاق وطني أو حتى “مشاركة وطنية” (وفق تعبير السيد حسن نصر الله) سيكون بالغ الصعوبة، بعد أن رفض “المستقبل” المشاركة فيها حتى ولو حصل على الثلث الضامن.
قد يستطيع ميقاتي (مجدداً في حال صموده) العمل على تشكيل حكومة تكنوقراط لاتتضمن الرموز “الشرسة”، وترفع شعار إنقاذ البلاد من الانهيار. لكنه حينذاك سيكون مضطراً هذه المرة إلى مواجهة حزب الله وحلفائه الذين سيطالبونه باتخاذ الموقف المطلوب حيال فك ارتباط لبنان بالمحكمة الدولية. فهل يستطيع ميقاتي القيام بهذه الخطوة الكبرى وهو يخوض معركة إثبات وجود مع “طائفته” التي أعلن هو تمسكه بها؟
قد يستطيع ميقاتي أيضاً أن يحصل على دعم من دمشق ومن بعض الأطراف في دولة عربية أخرى نافذة، لكن هذا سيثير عليه غضب الأطراف الأخرى التي تدعم الموقف المُتصلّب الراهن لقوى 14 آذار/مارس. وهذا سيضعه في مأزق آخر.
كما هو واضح، ميقاتي يواجه صعوبات جمة قبل التأليف، فكيف سيكون الحال بعده؟
وكما الأمر مع الرئيس المكلّف كذلك مع قوى 8 آذار/ مارس، التي ستجد نفسها في مأزق مُماثل في حال فشل “الحل الميقاتي” في الإقلاع، إذ إن أي شخصية سنّية أخرى من بين صفوفها أو قريبة منها، لن تتمكن من توفير الأغلبية التي حققها ترشيح ميقاتي، وقد لاتتمكن أيضاً من الحصول على كل الأصوات السبعة التي قدّمها وليد جنبلاط.
أيضاً، العجز عن تشكيل حكومة لن يكون في مصلحة 8 آذار/ مارس، لأنها تحتاج إليها لإعلان رفض لبنان الرسمي إضفاء الشرعية على عمل المحكمة الدولية. فهل يكون هذا التيار، حينذاك، في وارد تطبيق السيناريوهات الأمنية العديدة التي جرى الحديث عنها باستفاضة خلال الشهور القليلة الماضية، والتي تتضمن تغيير التركيبة السياسية برمتها بالقوة؟ وهل دمشق قادرة على دعم مثل هذا الخيار العنفي، من دون أن تخسر علاقاتها الثمينة الجديدة مع فرنسا وتركيا، وحتى مع الولايات المتحدة؟
أسئلة صعبة بالطبع. وهي تزداد صعوبة حين نضع في الاعتبار أن الوضع السياسي في لبنان دخل في مرحلة السيولة التي تكون مفتوحة دوماً على احتمال هبوب “العاصفة الكاملة”.
هذا عن العناصر المحلية لهذه العاصفة. ماذا الآن عن مكوناتها الإقليمية والدولية؟
لبنان: لحظة صدام إمبراطوريات:
أشرنا بالأمس إلى العناصر المحلية ﻠ”العاصفة الكاملة” في لبنان. ماذا الآن عن مكوناتها الإقليمية والدولية؟
فرنسا، “الراعي الأول” دولياً للكيان اللبناني منذ أن “صنّع” الرئيسان شيراك وبوش العام 2004 القرار 1559، كانت واضحة وجلية حين حددت على لسان رئيسها ساركوزي قبل يومين ثلاثة أسباب لاندلاع الأزمة اللبنانية الجديدة: تحويل الأنظار عن ملف التسلح النووي الإيراني، جمود محادثات التسوية بين الفلسطينيين و”الإسرائيليين”، ومسؤولية سوريا عن انهيار حكومة الوحدة الوطنية في لبنان.
الإدانة لطهران كانت متوقعة، بسبب الموقف التصادمي الذي تتخذه فرنسا الساركوزية ضد سياسات النظام الإيراني النووية والإقليمية. لكن الاتهامات لدمشق كانت مفاجئة بسبب حرص ساركوزي على مواصلة سياسة مد الجسور معها بصفتها معبر دخوله إلى المشرق العربي. فهل يعني ذلك أن العاصفة الكاملة ستلفح قريباً وجه العلاقات السورية – الفرنسية؟
إذا ماكان الأمر كذلك، فهذا سيكون نذير سوء بالنسبة إلى لبنان، حيث ستشعر سوريا أنها في حلّ من أي التزامات نحو فرنسا حيال التوازنات السياسية اللبنانية.
الأمر نفسه ينطبق على العلاقات السورية – الأمريكية، خاصة بعد أن أكدت الولايات المتحدة أنها ستقطع المساعدات على لبنان وتعزله دولياً (كما غزة) في حال تم تشكيل حكومة لبنانية يسيطر عليها حزب الله ولا تُمثّل، بالتالي، كل لبنان.
الآن، إذا ما أضفنا هذه المواقف الأمريكية والفرنسية الخطيرة إلى انهيار التنسيق السوري – السعودي حيال لبنان، ومزجنا هذا الكوكتيل بإعلان خامنئي الحرب الشاملة على المحكمة الدولية وبتشديد “إسرائيل” على أنها “لن تقبل وجود حكومة في بيروت يُسيطر عليها حزب الله”، فعلامَ سنحصل؟
على الظروف نفسها تقريباً التي كانت موجودة العام 1975، حين تحوّل لبنان إلى ساحة الصراع الدموية الرئيسية بين أنصار التسوية مع “إسرائيل” بقيادة الرئيس أنور السادات ومن ورائه الولايات المتحدة، وبين جبهة الممانعة بقيادة الرؤساء حافظ الأسد وصدام حسين ومعمر القذافي ومن ورائهم الاتحاد السوفييتي.
الفارق الآن بين مرحلة 1975 و2011 هو أن جوهر الصراع ليس القضية الفلسطينية (التي أصبحت تأثيراتها “جانبية” كما قال ساركوزي)، بل المواجهة الشاملة بين ثلاثة مشاريع إمبراطورية في الشرق الأوسط: الأمريكي و”الإسرائيلي” والإيراني، مع وجود مشروع امبراطوري رابع ينتظر وراء الكواليس: العثمانية الجديدة.
العنوان المباشر الذي تجرى تحته هذه المجابهة الآن هو المحكمة الدولية، التي تريدها الولايات المتحدة أداة لتجريد إيران وحزب الله من أي شرعية دولية ووضعهما في قفص مُحكم الإغلاق، ولتسليط سيف ديموقليطس دائم على رأس سوريا. ولأن طهران ودمشق تعرفان ذلك، فهما ستبذلان المستحيل لتطويق مفاعيل هذه المحكمة. كيف؟ أساساً عبر قطع دابر الصلة بينها وبين الطرف الذي ناشد الأمم المتحدة تشكيلها: الحكومة اللبنانية.
بيد أن المحكمة الدولية ليست كل الحرب، بل هي مجرد عنصر من عناصرها. صحيح إنها عنصر بالغ الأهمية في عصر بات فيه القانون الدولي سلاحاً من أسلحة السياسات الدولية، كما أثبتت ذلك محاكم يوغوسلافيا والسودان، إلا أنها ليست الورقة الوحيدة. إذ إلى جانبها أوراق عدة أخرى أمنية وعسكرية واقتصادية واستراتيجية.
فهل يكون لبنان أيضاً ساحة صراع بين هذه الأوراق أيضا؟ ربما. إذ هذه هي السمات الرئيسية ل”العاصفة الكاملة”.
*******
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.