على مدى العقود الأربعة الماضية غلبت النظرة التشاؤمية لحاضر العرب ومستقبلهم على معظم الأدبيات السياسية العربية، والأجنبية المعنية بالشأن العربي، ولقد تعدد الذين اعتادوا عقد المقارنات بين التخلف العربي الذي لا ينكر وبين التطور المتسارع في جنوب شرق آسيا والنهوض المتنامي في أمريكا اللاتينية،

 كما بين الركود الغالب في معظم الساحات العربية، وبين ما شهدته أوروبا الشرقية من ثورات برتقالية. فضلاً عن استعادة بعضهم المقولات الاستشراقية حول افتقار العرب لمقومات الوجود القومي وجمود التراث العربي الاسلامي وقصوره عن مواكبة العصر، لدرجة تعدد المتسائلون هل يتغير العرب؟ ولطالما اتهم الذين لما يزالوا على يقين بأن ارادة الممانعة العربية لم تستلب، المتفائلين بحاضر الأمة ومستقبلها، بالمثالية واللاواقعية وترديد "لغة خشبية".

وفجأة انتفض الشارع في تونس. وزلزلت قواعد النظام الأشد سطوة في كبح القوى الرديكالية القومية واليسارية والاسلامية، والذي عرف على مدى نصف قرن بتدجين هيئات المجتمع المدني، وضبط الشارع السياسي. ما فاجأ ليس أركان النظام وأجهزة قمعه فحسب، وانما ايضاً الذين لم يقرأوا قراءة موضوعية حقائق التاريخ العربي الحديث ومعطيات الواقع المعاصر. ولو أنهم لم يؤخدوا بالظواهر البادية على السطح لما فاجأتهم انتفاضة الشارع التونسي، بل ولتبينوا انها تنطوي على جملة دلالات ستكون لها تداعياتها على مدى الوطن العربي.

فانتفاضة الشعب التونسي أكدت صحة القول بأن شعوب الأمة العربية، تمتلك قدرة فذة على النهوض من الكبوات، ومفاجأة الغزاة والمستبدين. وفضلاً عن الشواهد الغني بها التاريخ العربي، نذكر بانتفاضة شعب مصر، رافضة استقالة عبد الناصر ليلة التاسع من حزيران/ يوليو 1967، ومطالبة بتواصل القتال بقيادته، ما أسقط الاهداف السياسية للعدوان الاسرائيلي، وحال دون الاستسلام الذي كانت تلوح نذره في الأفق. كما نذكر بانتفاضة أطفال الحجارة سنة 1987 التي لم تنتشل فقط الشعب العربي الفلسطيني من مشاعر اليأس وإلاحباط في أعقاب إخراج المقاومة المذل من بيروت، وانما شكلت أيضاً بداية تحول الصراع الى داخل الأرض المحتلة، ووضعت بداية نهاية ما اعتادته اسرائيل من خوض كل معاركها خارج ما تحتله من الأرض العربية.

وحين تتفجر الانتفاضة في القطر الذي افرغته اجراءات القمع السلطوية من كل قوة معارضة فاعلة، وبعد أن توزع مناضلوه التاريخيون ما بين المنافي والسجون، وبدا وكأنه صحراء سياسية لا يعلو فيها صوت معارض. ثم تنشق الأرض فجأة عن جيل من الشباب والصبايا يزلزل أركان النظام ويسقط رأسه، فإن تونس بانتفاضة شبابها وصباياها قدمت الدليل على حيوية الأمة العربية، وقدرة شعوبها على تواصل العطاء، بل وتجدده على درجة اعلى من الكفاءة. وكما ضخت انتفاضة أطفال الحجارة دماء جديدة في عروق المقاومة الفلسطينية واعادت لها حيويتها وفعاليتها، ففي تونس مؤشرات واعدة. بدليل اجماع المحللين السياسيين على أن الشعب التونسي يمتلك القدرة على افشال مخطط إجهاض انتفاضته.

ولقد بدا جلياً منذ ساعات الانتفاضة الأولى أنه ليس من قوة رئيسية تقودها، وإن الحراك الشعبي ضم قوى من مختلف الوان الطيف السياسي التونسي من اقصى اليسار الى اقصى اليمين. ما يعزز النقلة النوعية في الحراك الوطني العربي المتمثلة في تلاقي مختلف القوى، على رغم تعدد انتماءاتها السياسية وتوجهاتها العقائدية والفكرية. في جبهة وطنية واسعة في العمل لتجاوز الواقع المأزوم. ما يؤشر الى غلبة تجاوز مرحلة النزاعات اللامجدية التي كانت في مقدمة عوامل اجهاض نضالات خمسينات وستينات القرن العشرين.

وصحيح أنه كان للفتاة العربية اسهام مشهود في معارك الاستقلال الوطني العربية منذ مطلع القرن العشرين، كما في التصدي للاحلاف الاستعمارية بعد الاستقلال، وفي حركات مقاومة العدو الصهيوني. إلا أن أدوار المرأة الأكثر بروزاً التي تجلت في الانتفاضة التونسية على المستوى القيادي، تؤشر الى ما يمكن اعتباره نقلة نوعية في الحضور السياسي للمرأة العربية، وأن الأمة العربية على عتبة تجاوز مرحلة محدودية الدور النسائي في الحراك السياسي – الاجتماعي.

ومنذ الساعات الاولى لتفجر الانتفاضة التونسية شدت إليها أنظار شعوب الأمة العربية، وشهدت العديد من الساحات حراكاً مؤيدا ومباركا. ما فيه الدلالة الواضحة على أن الخطاب القطري الذي مضى في خط صاعد منذ انحسار المد القومي العربي مطلع سبعينات القرن الماضي لم يوهن الشعور بوحدة المسيرة والمصير ولا غيب الإدراك بأن الانجاز في أي قطر عربي انما هو انجاز قومي.

وحين يبدي قادة الكيان الصهيوني قلقهم تجاه انتفاضة تونس، وحين يتشكل تحالف دولي واقليمي لاجهاضها. ففي ذلك دلالة ذات بعدين: الأول أن شيوع الديمقراطية في الوطن العربي هو ما يخشاه التحالف الاستعماري – الصهيوني. والثاني أن طموح الشعوب العربية للحياة الديمقراطية والتنمية المستدامة لا يواجه فقط من القوى المحلية المستغلة، وانما ايضاً من القوى الاقليمية والدولية ذات المصلحة في تواصل التجزئة والتخلف والتبعية.

وأخيرا فالانتفاضة انطلقت عفويا باقدام محمد البوعزيزي على احراق نفسه، بعد حرمانه التكسب الشريف باجراء روتيني. ما استفز الاحتقان المكيوب في صدور التونسيين المحرومين، والمتعطشين لحرية طال حرمانها: فاندفعوا يحطمون حواجز خوفهم وقيود استكانتهم، غير عابئين باجهزة نظام فاقد الصلة بهم، إذ لم تتصد للدفاع عنه اي قوة وطنية، ولم يتبق له سوى اجهزة قمعه التي فشلت في كسر ارادة التمرد المنطلقة من عقالها. وإذا كان ذلك ما جرى في مواجهة النظام الاشد سطوة، والاعمق ارتباطا بالأجهزة الامريكية والفرنسية، ما يجعل منطقيا توقع أن سيكون لانتفاضة تونس تداعياتها على مدى الوطن العربي، وإن بدرجات متفاوتة . وهي تداعيات متأثرة الى حد بعيد بقدرة الشعب التونسي على حماية انتصار انتفاضته وافشال محاولات اجهاضها المحلية والاقليمية والدولية، فهل يحقق لشعوب أمته المثال الناجح الذي يقتدى به؟