وكأن العام المنصرم لا يمكن النفاذ إليه إلا من خلال مراجعة وإن مختزلة لما سبقه من أعوام في مستهل الألفية الثالثة .
فالمشهد العربي اليوم على ما يرام “ليس على ما يرام مطلقاً” لا بل أقول أكثر من ذلك، المشهد العربي اليوم في خطر حقيقي، فما نشاهده ونختبره ينذرنا بالحاجة الماسة إلى الخروج من مصيدة التفكيك التي نعانيها داخل أقطار الأمة العربية، والتفتيت الحاصل والمتنامي داخل مجتمعاتها، هل نستنتج من ذلك أن العروبة التي نؤكد كونها هوية هذه الأمة، لم تلب ما كان يجب أن يكون أولية، وهو العروبة مواطنة .
إذاً ماذا تعني بالعروبة مواطنة؟
قبل الخوض في هذا السؤال المصيري، لابد لنا من تحليل موضوعي للأسباب التي أدت إلى سهولة العطب الذي حصل في حالة الأمة، وما نشاهده اليوم في السودان حيث تزايدت احتمالات انفصال جنوبه، وهشاشة الوحدة الوطنية في العراق، والالتباس في تأكيد وحدة الهوية في لبنان، واستمرار التداعيات الحاصلة في الصومال، وبدايات اهتزاز اللحمة الاجتماعية في اليمن والأضرار المتنامية من جراء التخلي النسبي لمصر عن دورها التاريخي الرائد كجسر للتواصل وساحة للتلاقح بين مشرق الأمة ومغربها، كل ذلك أدى إلى تعريف مشوه للواقعية وكأنها أصبحت تعني الاستسلام للواقع في حين أن المطلوب هو التصميم على تغييره واستعادة تفعيل قوى النهضة الكامنة لشعوب الأمة .
نشير إلى هذه الحالة التي عرفناها بكونها عنصراً أساسياً في إفقادنا المناعة لمجابهة التحديات المتصاعدة التي يوظفها من يتربص لوحدة العرب، وما تستولده هذه الوحدة من تغييرات جذرية تمكننا من عطاءات سخية، تجعل ما نتلقف من الغير إثراء “لثقافاتنا وإمكانياتنا وحاجاتنا، إذ إن من لا يعطي بسخاء لا يستطيع أن يأخذ بكرامة” .
المواطنة إذاً “تنطوي على الخروج من القوقعة التي تستولدها ومن ثم ترسخها الطائفية والقبلية والعرقية إضافة إلى المذهبية الضيقة، إذ إن هذه العوامل وهذه الحالات تؤكد ما يفرق بين شعوب أقطار الأمة في حين أن المواطنة تحتفل بالتنوع وتؤكده، لا بل إنها ترفض وتدين التعددية التي ترسخ وتؤكد التباعد والافتراق بين المواطنين” .
إذاً، عندما نقول العروبة مواطنة، فهذا يعني أنه يتحتم علينا بشكل سريع ومدروس أن نعالج الأسباب التي أدت إلى انفصال في السودان، وإلى اهتزازات في سلامة الانتماء لعديد مما يسمى ب”الأقليات” إلى أوطانهم وشعورهم تارة بالقلق أو بالخوف تارة من ممارسات التمييز والتهميش أو الإلغاء . المواطنة تؤكد التساوي في الحقوق وكما أشرنا الاحتفال بالتنوع، وبالتالي المساواة بين المواطنين .
في هذه الوقفة بين عقدين لا مفر من إعادة النظر بشكل جذري في العمل الدؤوب المتواصل بهدف إنجاز وإقناع كل من اختاروا الانتماء إلى أقطارهم مهما تباينت أعراقهم وطوائفهم ومذاهبهم أن هذا التباين يثري ولا يلغي أي حقوق ولا شرعية لأية حاجات للمواطنين .
العروبة إذاً هي المضمون الإنساني والضمان الرئيس للمساواة بين المواطنين، ومن هذا المنطلق يتبين لنا، كما يجب أن يتبين للعالم أن العروبة من هذا المنظور هي بمنزلة الجواب الحضاري للمشروع الصهيوني الذي تقوم عليه “إسرائيل” التي تدرك أن التوجه التوحيدي هو إفقاد المشروع الصهيوني الساعي إلى إلغاء قدرة الأمة لاسترجاع مناعتها وحقوقها وقوة ردعها في مواجهة تمادي “إسرائيل” في “روتنة” استباحة ما تقوم به في فلسطين وبالتالي التفكيك على مستوى الوطن العربي الكبير .
من هنا تصبح استقامة القضية الفلسطينية بدورها أولوية لاستعادة العروبة مناعتها ووضوح خطابها واستقامة وصدقية استراتيجيتها ووضوح رؤاها وسلامة مشاركة جماهيرها في تقرير مصائرها .
لم يعد جائزاً أن تبقى عوامل الوحدة مهمشة وأحياناً مقموعة أو مستبعدة، لذا تبقى استعادة فلسطين حقوقها الوطنية كاملة المدخل لجعل ما يبدو آنياً مستحيلاً . . ممكناً .