عندما وصلت إدارة الرئيس الأمريكي، باراك أوباما للحكم، استبشر العرب، والفلسطينيون بشكل خاص، خيراً. لقد تفاءل الجميع، وحسبوا أن الإدارة الجديدة، بمبادراتها المعلنة حيال المنطقة، ستقدم قريبا على كسر حالة الجمود والعجز، التي طبعت سياسة الرئيس، جورج بوش، تجاه الصراع العربي الصهيوني، وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة.
وبإمكان المتتبع لتطور السياسة الأمريكية أثناء الانتخابات الرئاسية الأخيرة، تفهم الأسباب والمبررات التي عممت مناخ التفاؤل. فقد جرت حملة الرئيس أوباما الانتخابية، على قاعدة معالجة الآثار التي تركتها الممارسات الكارثية، لسلفه الرئيس، بوش والتي استهدفت في المقام الأول بلداننا العربية. وكانت قائمة الوعود بتصحيح الأخطاء قد شملت الانسحاب العسكري الأمريكي من العراق وترك العراق للعراقيين ليقرروا ما يشاؤون تجاه مستقبلهم. وإعادة الاعتبار للإسلام والثقافة العربية، وتعميم روح التسامح، والمباشرة فورا بعد تسلم سدة الرئاسة بمعالجة القضية الفلسطينية، وصولا لقيام الدولة المستقلة.
ولعلنا لا نجانب الصواب، حين نسجل لإدارة الرئيس أوباما، أنها أول إدارة أمريكية، منذ تأسيس الكيان الغاصب، تتحرك في وقت مبكر، وبعد عدة أسابيع على استلام السلطة لتنشيط عملية التفاوض بين السلطة الفلسطينية والكيان الغاصب. لقد اعتاد الرؤساء الأمريكيون في السابق، تجاهل الملف الفلسطيني، والصراع العربي- الصهيوني برمته. وكانت استجاباتهم انفعالية، تأتي في كرد فعل على انتقال الصراع، من حالة السكون إلى الحرب، وهي في معظمها تأتي لتدعم الخنادق الإسرائيلية، على كل الجبهات. وقد حدث ذلك في كل الحروب التي فرض على العرب خوضها مع الكيان الغاصب. وكان التدخل الأمريكي الحاسم إلى جانب إسرائيل، من أسباب تفوقها العسكري الدائم على الجيوش العربية مجتمعة.
لكن ما غاب أو يغيب في وعينا عن اللتحرك السريع، لإدارة الرئيس أوباما للتقريب بين السلطة والحكومة الإسرائيلية، أنه يتم وفق رؤى ومعطيات أمريكية، وليس ضمن تسليم بالمصالح والحقوق الفلسطينية. كما أنه يتم ضمن ثوابت حكمت السياسة الأمريكية، تجاه الصهاينة، منذ الإعلان عن وعد بلفور، واستمرت هذه المواقف في خط بياني، يتجه مؤشره باستمرار إلى الأعلى. ومن بين هذه الثوابت، ضمان تفوق الكيان الصهيوني عسكريا، على جميع الدول العربية، والحيلولة دون نماء وتطور المؤسسة العسكرية العربية، وحرمان العرب من الحصول على التكنولوجيا الحديثة.
ليس ذلك فحسب، بل وتجاهل القرارات الدولية، ومن ضمنها قرارات مجلس الأمن، التي يمكن أن يستثمرها الفلسطينيون لنيل القليل… القليل، من حقوقهم. وقد أضحت الإدارات الأمريكية المتعاقبة، سيفا مسلطا، بجبروت الفيتو، الذي تفوقت في استخدامه على الجميع، للحيلولة دون صدور أي قرار عن مجلس الأمن الدولي، يدين عربدة إسرائيل، سواء فيما يتعلق بانتهاكاتها المستمرة لأبسط حقوق الشعب الفلسطيني، أو استخدامها في صراعها مع العرب، لمختلف أسلحة الإبادة، المجرمة دوليا.
ولم يكن لإدارة أوباما، بحكم تركيبتها، وبحكم التقاليد السياسية الأمريكية، أن تحيد عن الطريق، وأن تسير في اتجاه خارج هذا السياق. ولم تبلغنا هذه الإدارة ما يشي بخروجها على الثوابت الأمريكية، تجاه الكيان الصهيوني. كلما في الأمر، أننا كنا بحاجة إلى شيء من الوهم، وقد منحتنا بعض التصريحات الأمريكية شيء منه، بالحديث عن رفضها لاستمرار بناء المستوطنات الصهيونية في الأراضي المحتلة أثناء سير المفاوضات.
والمؤكد أن غياب الوعي العربي، بمكونات وثوابت السياسة الأمريكية، هو وجه آخر، لوهن العرب وعدم قدرتهم على صياغة استراتيجية كفاحية فاعلة للتصدي للمشروع الصهيوني. كما هو أيضا، تعبير عن الخلل في العلاقات والهياكل العربية، وبضمنه غياب القدرة على اتخاذ القرار الصحيح.
فمنذ سلمنا مفاتيح أقدارنا للأمريكيين، إثر حرب أكتوبر المجيدة عام 1973م، وقبرنا لاءات التفاوض والصلح والاعتراف، وأعلنا أن 99% من أوراق الحل هي بيد الولايات المتحدة الأمريكية، كان علينا أن نقبل بشروط اللعبة. ومن أبسط تلك الشروط القبول بالانحياز الأمريكي لإسرائيل، بالضد من مصالح العرب المشروعة.
كان وزير الخارجية الأمريكي، هنري كيسنجر هو المهندس الأول "للسلام" بين العرب والصهاينة. وفي لقاءاته الأولى مع الرئيس المصري الراحل، أنور السادات، تكلم في غاية الصراحة. وبحسب ما تسرب عن محاضر جلسات الرجلين، أبلغ كيسنجر الرئيس المصري أن العرب مثقلون ومشغولون دائما بالحديث عن التاريخ، وعن الحقوق، والقرارات الدولية، ورفض سياسة الأمر الواقع. إن التمسك بهذه اللغة لن يكون من شأنه الدفع بمسيرة السلام إلى الأمام أن رؤية بلاده للصراع، تنطلق من تجاوز التاريخ.
ومن وجهة نظر كسينجر،لا بد من الإنطلاق من الحاضر، وأن قبول الوساطة الأمريكية، لإيجاد مخرج الصراع مع الصهاينة، يعني ابتداء قبول الانحياز الأمريكي لإسرائيل، والتسليم بالضمانات الأمريكية لتفوقها العسكري والاقتصادي على العرب مجتمعين. والبديل الذي يمكن أن يقدمه القادة العرب في هذا الاتجاه، هو إعطاء قوة دفع للسلام، بالتنازل عن حقوقهم، ومن ضمنها عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، وعروبة القدس. إن على العرب من جانبهم كسر الحاجز النفسي مع العدو، ومباشرة التطبيع السياسي والاقتصادي معه، وعدم التوقف عند حقائق الجغرافيا والتاريخ.
قبلنا ذلك، ودخلت مفردات التفريط، دون عناء، في قواميسنا السياسية. وكان ثمن ذلك هو التنكر للدماء التي سالت على امتداد أكثر من تسعة عقود، منذ وعد بلفور بتأسيس وطن قومي لليهود على أرض فلسطين.
وكان التفاوض في مقدماته ونتائجه مزايدات ومناقصات، لا يربطها بالواقع شيء. فقد كان في مجمله، تفريطا وتنازلات عربية مستمرة للعدو. ولم يكن من الصعب التنبؤ بالنتائج. فقد جرى التفاوض مع خصم، بوساطة شريك للخصم، وكان رصيدنا في تلك المفاوضات، عالما من الأماني والتخيلات والأوهام. وفي واقع هكذا، تبدأ المفاصلة والمساومة، ويعم ضجيج وصخب، ونقسم بأغلظ الإيمان، أن ما قدمناه على طاولة المفاوضات، هو آخر التنازلات، ويتتابع استخدام القسم إثر القسم، لكن العد التنازلي هو القانون. وعند كل تنازل ينطلق قسم مغلظ أخر، أن ما بعد هذا التنازل، ظلم كبير، ومع ذلك يبقى التشبث بالوهم، وتستمر التنازلات حتى لم يعد لدينا شيء نتفاوض عليه.
وكانت الخلاصة كما أوضحها هنري كيسنجر نفسه، أنه وشركاءه الإسرائيليين، يدخلون المفاوضات باحتراف دقيق للعبة الشطرنج، بينما لا يجيد مفاوضوهم العرب سوى لعبة النرد. والفارق كبير بين اللعبتين. ففي الأولى يستخدم الحساب، وما له علاقة بالقدرات العقلية، أما في الثانية، فالاعتماد هو بالمطلق على رمية الزهر، وهي رمية تعتمد على الحظ، وليس على الحسابات العقلية. فكانت النتيجة سيادة منطق القبول بضعف الحيلة، والاعتراف بمشروعية اغتصاب فلسطين، وتوقيع صكوك اعتذار للمغتصبين في كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة.
لم تكن تصريحات إدارة أوباما الأخيرة، عن عجزها إقناع الحكومة الإسرائيلية بالتوقف عن بناء المستوطنات الصهيونية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، سوى إعادة تأكيد على الثوابت الأمريكية، المتمثلة في الانحياز الكامل والشامل للكيان الغاصب، وهي دعوة لنا لمراجعة برامجنا وسياساتنا وتكتيكاتنا، بما يتسق مع حقوقنا ومصالحنا. وفي مقدمة هذه الحقوق قيام الدولة الفلسطينية المستقلة فوق التراب الوطني الفلسطيني. فهل حان موسم المراجعة العربية؟!