من سيقسم بعد السودان ؟
صلاح المختار
الضربات القوية تهشم الزجاج لكنها تصقل الحديد
مثل
تتجه الاوضاع في السودان نحو الحسم بعد عقود من التطورات الخطيرة والمتتابعة، ومن بين اهم المؤشرات على ذلك الموقف الامريكي والذي عبرت عنه تصريحات رسمية ذات دلالات خطيرة وواضحة المعنى والهدف، ومن بينها تصريحات نائب الرئيس الامريكي جو بايدن ووزيرة الخارجية هيلاري كلنتون، فبايدن اطلق تصريحات متعددة حول السودان وعد فيها السودان برفع العقوبات عنه وتقديم مساعدات مقابل قيام الحكومة بتسهيل اجراء الاستفتاء حول انفصال جنوب السودان وبالحاح لافت للنظر، وقبل بايدن اطلقت هيلاري كلنتون وزير ة الخارجية الامريكية تصريحا يؤكد ان الانفصال سيكون نتيجة الاستفتاء وقبل ان تعبر قيادات جنوبية عن رغبتها بالانفصال، وهذا التصريح يفسر مقترح بايدن المذكور حينما استخدمت كلنتون لغة لا صلة لها باللغة الدبلوماسية بتحذيرها حكومة السودان من عرقلة الانفصال!
وهذا التصريح الرسمي الفج والعدائي بالكامل للسودان ووحدته كان رسالة مباشرة وصريحة لقيادة جنوب السودان تقول اذا كانت لديكم اي نية لعدم الانفصال وابقاء السودان موحدا فعليكم التخلي عنها واختيار الانفصال ونحن ندعمكم في امريكا واوربا. وما زاد القلق ان تصريحات كلنتون اثنت عليها دول اوربية بقوة وحماس واضحين. وهذه خطوة خطيرة جدا تؤكد مرة اخرى وتثبت بصورة حاسمة ان امريكا تريد تنفيذ خطة انفصال الجنوب وتأسيس دولة هناك لن تكون الا معادية لعروبة ووحدة السودان وتوظف لضرب مصر ايضا واكمال خطوات عزل وتقسيم مصر التي ابتدات باتفاقيتي كامب ديفيد مع الكيان الصهيوني.
وهذا التوجه الامريكي وجد صداه فورا لدى عناصر جنوب السودان فقد قامت حكومته بعد تصريحات كلنتون وقبل تحقيق الانفصال بالغاء اللغة العربية واحلال اللغة الانكليزية محلها، فاذا اقدمت الان وقبل الانفصال على الغاء اللغة العربية فماذا نتوقع منها بعد الانفصال وهي على صلات قوية ومعروفة بالكيان الصهيوني واطراف غربية معادية للعرب؟
ان هذه التطورات تفرض طرح اسئلة مهمة جدا منها : ما الذي اجبر بايدن على الذهاب الى السودان مرتين وطرح هذا المشروع المطعم باغراء مسمم؟ وما سر الكرم الامريكي هذا المتمثل بالوعد القوي برفع الحصار عن السودان؟ وهل كان الحصار وافتعال ازمات في السودان في جنوبه وشرقة وغربه وشماله مقدمة لابد منها لاعداد البيئة المناسبة لتقسيم السودان؟ وهل تقسيم السودان خطوة منفردة ام انها جزء من مخطط عام يشمل تقسيم كل الاقطار العربية على اسس طائفية او عرقية في المشرق والمغرب؟ وما هي صلة ما يجري في السودان بتنفيذ سايكس بيكو الثانية التي تقوم على تقسيم الاقطار العربية على اسس عنصرية وطائفية؟ وهل ما يحصل في لبنان والعراق واليمن وغيرها هو خطوات في هذا الاطار؟
لتقديم اجوبة دقيقة لابد من التذكير بعدة حقائق منها :
1– ثمة تزامن لا يمكن تجاهله بين التصعيد في احداث السودان والتصعيد في العراق ولبنان ومصر ودول الخليج العربي خصوصا الكويت والبحرين، ودول المغرب العربي، حيث ان الاحداث في هذه الاقطار تتجه للمزيد من التوتر والتعقيد. وهذا التزامن يقدم دليلا قويا على ان ما يجري ليس تطورات عفوية.
2– ان الاعلان عن القرار الامريكي – الاوربي بتقسيم السودان ليس سوى تبن كامل ورسمي للخطة الصهيونية المعروفة القائمة على تقسيم الاقطار العربية كلها على اسس عرقية وطائفية، والسودان ذكر في المخطط الصهيوني صراحة ونص على انشاء دولة مستقلة في جنوب السودان. ومن يقرأ ما كتبه الصهيوني عوديد ينون في مقالته الشهيرة (ستراتيجية لاسرائيل في الثمانينيات) وغيره يدرك هذه الحقيقة بلا لبس او غموض. وكما في العراق فان امريكا تخلت عن موقفها التقليدي وهو اضعاف وتقزيم الاقطار العربية دون تقسيمها وتبنت الخطة الصهيونية القائمة على تقسيمها.
3– تأكد الان ان الاثارة المفتعلة لمشكلة درافور وتحريك النزعة الانفصالية مجددا في الجنوب وتحريض اطراف شمالية على دعم انفصال الجنوب او دارفور في الغرب وافتعال ازمة في الشرق ليس سوى خطوات امريكية وغربية مدروسة لتقسيم السودان. ومع تزايد الوجود الصيني في السودان ازدادت حمى الغرب لتقسيم السودان لان وجود نفوذ صيني في السودان سيحرم الغرب الاستعماري من امكانية استغلال ثروات السودان وهي ثروات مهمة جدا، ويمنع تقسيمه. ان الصراع في السودان لم يعد صراعا اقليميا بين حركة التحرر الوطني العربية خصوصا السودانية منها، والصهيونية وكيانها في فلسطين المدعوم من قبل الاستعمار الغربي الامريكي والاوربي، بل اصبح له بعد دولي خطير.
4– ان انفصال الجنوب ليس سوى خطوة تمهيدية تشجع وتدعم انفصال دارفور وغيرها من مناطق السودان، ولذلك فان الامن لن يسود بعد انفصال الجنوب بل ستحرك ازمات اخرى وستكون اشد واخطر من ازمة الجنوب.
5– ان تقسيم السودان ينطوي على اهداف اقليمية ستراتيجية خطيرة منها ما يلي :
أ– طرد الصين من السودان ومن افريقيا كلها استباقا لبروز الصين كقوة مقررة وحاسمة في افريقيا وفي العالم، كما اكدت دراسات امريكية عديدة بدأت تصدر منذ نهاية القرن الماضي. ان تقسيم السودان على يد الغرب وبدعم مباشر منه سيمكنه من التأثير على الدول الجديدة التي يراد لها ان تنشأ على انقاض الكيان الوطني السوداني وتقرير السياسات التي ستتبعها بما في ذلك موقفها من الصين الصاعدة.
ب– التمهيد لاقامة تحالف اقليمي افريقي – صهيوني تحت رعاية امريكا، يضم الدول الجديدة المنفصلة من السودان واثيوبيا واوغندا وغيرها واستخدامه في العملية اللاحقة وهي تقسيم مصر وابتزازها وابتزاز ماسيتبقى من السودان، وهذه الخطوة احد اهم الاهداف الصهيونية المعلنة منذ عقود والتي تتمثل فيما يسمى ب (نظرية شد الاطراف)، اي استقطاب الدول غير العربية المحيطة او المجاورة للاقطار العربية من قبل الكيان الصهيوني واقامة تعاون ستراتيجي معها من اجل تركيع العرب كليا وحسم ما تبقى من الصراع العربي – الصهيوني.
ج– تقسيم السودان يستبطن هدفا ستراتيجيا له صلة باحكام السيطرة على الوطن العربي كله، فمن المعروف ان ثمة دراسات كثيرة اكدت بان ازمة الغذاء المتنامية في الاقطار العربية والتي تهدد باوخم العواقب يمكن حلها عن طريق الاستثمار العربي في السودان في مجال الزراعة حيث ان ارض السودان ومياهه تمكنه من توفير الغذاء لكل الاقطار العربية وبذلك تحل هذه الازمة الخطيرة التي تهدد المستقبل العربي. لقد وصف السودان بانه (سلة الغذاء) للامة العربية، والان تجري عملية واضحة لمنع بل ولنسف اي امكانية لتطبيق مشروع تحويل السودان الى سلة غذاء لكل العرب، لان الانفصالات المتوقعة – وليس انفصال الجنوب فقط – سوف تجعل الاراضي الزراعية الخصبة بغالبيتها ضمن دول انفصلت ولم تعد سودانية.
وحرمان الاقطار العربية من الغذاء السوداني يحقق هدفين جوهريين الهدف الاول هو استمرار اعتماد العرب على استيراد القمح وغيره من دول غربية وبالاخص امريكا واستراليا، فتصبح التبعية الغذائية من اهم اسلحة ابتزاز العرب. والهدف الثاني هو تنشيط اقتصادات الغرب الذي يتعرض لازمات اقتصادية خطيرة بتصدير الطعام للعرب بكميات ضخمة.
6– اما مصر فسوف تشهد بروز ظاهرتين خطيريتين :
أ– ظاهرة تناقص المياه الواردة لها من النيل وهو وضع سيزيد من مشاكل الزراعة في مصر وهي كبيرة وسيدمرها في نهاية المطاف فيزيد الفقر والتخلف فيها، وبذلك تجبر اي حكومة مصرية على زيادة اعتمادها على المساعدات الخارجية خصوصا الامريكية في مجال الغذاء وعلى الكيان الصهيوني في مجال تقديم المساعدة الفنية المشروطة في المجال الزراعي، فتفقد مصر استقلالها وسيادتها وتصبح مستعمرة امريكية صهيونية رسميا وبالكامل.
ب– في ظل تخبط مصر الشديد المتوقع في ازمات خطيرة غذائية وديموغرافية ما يتفرع عنها من ازمات سياسية واقتصادية خطيرة، يصبح تقسيم مصر امرا واردا وممكنا، ومنذ الان بدأت خطوات التمهيد لانشاء دولة قبطية مدعومة من الغرب، ومواقف بعض القساوسة الاقباط المستفزة للمسلمين في مصر احد اهم مؤشرات ذلك، مثل قول احدهم (بان المسلمين في مصر ضيوف لدينا)، ووجود رد فعل اسلامي طائفي مماثل للفعل الذي تقوم به عناصر قبطية داخل وخارج مصر خصوصا في امريكا يتمثل في بروز عداء صريح للاقباط في اوساط معينة. وتقسيم مصر يشابه تقسيم العراق فالمطلوب جعل مصر اربعة دول دولة قبطية ودولة سنية ودولة شيعية – فاطمية ودولة نوبية في الجنوب.
7– ان تقسيم مصر والسودان ليس الا خطوة اخرى في مخطط تقسيم كافة الاقطار العربية والذي وضعته الصهيونية والغرب الاستعماري، فبعد غزو الاحواز وفلسطين والعراق جاء دور مصر والسودان من اجل القضاء على اهم كم سكاني عربي وهو العدد الضخم لسكان مصر والسودان وتحويله الى فسيفساء عرقية وطائفية متناحرة وبلا رابط وطني او قومي يجمعها مجددا، ومنع العرب خصوصا مصر من حل ازماتها الغذائية بتحويل السودان الى ضامن للغذاء المطلوب من الاقطار العربية. ان مصر مركز الثقل السكاني العربي ستبدو مقزمة ومقسمة وتابعة وكذلك السودان، وما جرى ويجري في العراق منذ غزوه يثبت ذلك بقوة وحسم تامين.
ان اثارة ازمة توزيع المياه التي فجرت في الشهور الماضية بين مصر والسودان من جهة ودول المنبع الافريقي لنهر النيل من جهة ثانية تقع في اطار التصعية المتعمد والتهيئة المدروسة للاحداث اللاحقة.
|
|
8– اما في لبنان فان التصعيد المتعمد من قبل طرفي المؤامرة الدولية والاقليمية، امريكا وايران، فانه تمثل في قيام المحكمة الدولية بتسريب معلومات لصحف صهيونية بالدرجة الاولى تتهم عناصر من حزب الله بانها كانت وراء اغتيال رفيق الحريري، وسيكون ذلك متضمنا في ما يسمى ب(القرار الضني) حول الاغتيال، وهو ما اعتبره حصان طروادة الايراني القوي في لبنان حزب الله استفزازا له ومحاولة لتوريطه في الاغتيال. كما ان عملية التسريب المتعمد تعطي حزب الله ما يريده ويحتاج اليه بقوة وهو مواقف واحداث تشير الى انه في حالة صراع مع الكيان الصهيوني، مع ان صراعه انتهى عند تحرير الجنوب وعدم ممارسة العمل المسلح في ما تبقى محتلا وهو مزراع شبعا وقرية الغجر، ففجر مجددا ازمة خطيرة ادخلت لبنان في نفق مظلم قد لا يكون مخرجه سوى شرذمة لبنان.
واهم واخطر ما يتوقع حصوله في ضوء تجربة العراق ومعرفة مكونات المخطط الامريكي الصهيوني الايراني هو التهجير المنظم للمسيحيين والسنة والدروز طائفة بعد اخرى من لبنان بتأثير القوة المفرطة والمنفلتة لحزب الله، ونتيجة اليأس من تحقيق الاستقرار والاستهداف الواضح لهذه الطوائف في لبنان. واذا تحقق ذلك يصبح حزب الله متحكما بلبنان ويحوله الى جزء قوي مما اسميناه ب(البدر الفارسي)، وليس (الهلال الشيعي)، الذي يشمل ايران والعراق وسوريا ولبنان والاردن وما تبقى من فلسطين، وهذا البدر سيكون في حالة اكتماله كافيا لفرض سيطرته على الخليج العربي والسعودية ومصر والسودان المقسمان او المشرذمان وعلى المغرب العربي تدريجيا. علينا ان لاننسى ما يجري في العراق منذ فترة من عمليات قتل منظم للمسيحيين، بعد مهاجمة وقتل الصابئة واليزيدية، وتصاعدت مؤخرا هذه الاعمال الاجرامية ضد المسيحيين وتبين ان اوربا وامريكا لهما مصلحة في تلك العمليات، كما للعناصر الانفصالية الكردية مصلحة عظمى في ذلك لاجل اكمال ترتيبات الانفصال واهمها تكريد مناطق عربية او تركمانية وغيرها، وما التحركات الفرنسية والايطالية، المدعومة من قبل امريكا والكيان الصهيوني، لتشجيع هجرة المسيحيين واستقبالهم بترحيب لافت للنظر مع ان هناك تشددا في قبول اللاجئين العراقيين عامة، الا محاولة واضحة وخطيرة لاجبار المسيحيين على ترك وطنهم التاريخي العراق لتفريغ العراق من مكون اصيل من مكوناته، ولذلك سيكون من السذاجة تجاهل ظاهرة ان الغرب له مصلحة في تهجير المسيحيين والدروز والسنة من لبنان، او على الاقل تهجير اجزاء كبيرة منهم، وزيادة عدد الشيعة فيه ليكونوا اداة ايران في توسعها الاستعماري. وهذا الهدف بطبيعة الحال لا يمكن الوصول اليه الا اذا ساد الصراع الطائفي والديني اولا، وهو صراع غامض الاهداف ومدمر ويحول الحرب من حرب مع الاعداء المحتلين الى صراع بين العرب انفسهم، وتم ثانيا اغراق الصراع التحرري تحت بحيرات دم العرب المتقاتلين طائفيا ودينيا، رغم انه صراع واضح ولا غموض فيه، لان هدفه مشروع وقانوني واخلاقي وهو تحرير اراضينا المحتلة. لهذا فان الصراعات الطائفية تعفي القوى الاستعمارية من كلف الغزو والتدخل المباشر المادية والبشرية، وهنا يكمن سر تشجيع امريكا والكيان الصهيوني واطراف اوربية وايران الطوائف والاديان والاقليات في الوطن العربي على نسف الوحدة الوطنية واشعال حروب داخلية طائفية تقوم بما كان يجب على الكيان الصهيوني والقوى الاستعمارية الغربية القيام به. وتلك هي الشيفرة السرية التي فقدت سريتها بعد غزو العراق واصبحت اهم قواعد عمل القوى الاستعمارية الغربية كامريكا واوربا والقوى الاستعمارية الاقليمية كايران والكيان الصهيوني. وتكمن خطورة دور حزب الله في لبنان، بعد تحرير الجنوب وانتهاء الغاية من وجود مقاومة فعلية، هو انه يقوم بالتنفيذ الحرفي لمخطط اعادة رسم الخارطة الجغرافية والسكانية في الاقطار العربية كافة، وهو دور مكمل لادوار القوى الموالية للغرب والصهيونية، ولذلك فان للغرب والكيان الصهيوني مصلحة ستراتيجية وليس تكتيكية في دعم الدور الايراني الناشر للفتن الطائفية وهي مصلحة تشمل تلقائيا حزب الله لانه اهم واخطر ادوات ايران ليس في لبنان فقط بل في الوطن العربي كله. ما هو الهدف من التهجير المنظم؟ الهدف واضح تماما : فمن ناحية فان التهجير يعزز ظاهرة الحروب الطائفية في العراق ولبنان وغيره، وتلك الحالة تزيد من استبعاد تأثير الصراع العربي – الصهيوني وتراجعه وانطفاءه، وهذا واحد من اهم اهداف الصهيونية والغرب الاستعماري التقليدية، ومن ناحية ثانية فان الغرب والصهيونية سيمسكان بدليل قوي يؤكد ويثبت صحة احد اهم عناصر الدعاية الغربية والصهيونية وهو (ان الاسلام والمسلمين بشكل عام والعرب بشكل خاص يكرهون المسيحية واليهودية وغير المسلمين عامة وهم قوم تتحكم فيه نزعات عدوانية وحربية بتأثير دينهم الذي يشجع على العدوان والحروب)، واذا ما تعززت هذه الدعاية فانها ستساعد بقوة على العثور على دعم جماهيري غربي قوي للحملات الاستعمارية التي فشلت حتى الان وواجهت مشكلة عزوف الناس في امريكا واوربا عن التطوع في الجيوش الاستعمارية ورفضهم دعم النهج الاستعماري الغربي خصوصا بعد تجارب الفشل في العراق وافغانستان. لذلك فان تحويل الصراع الى صراع ديني يقدم على طبق من ذهب لامريكا وللنزعة الاستعمارية الاوربية التي انبعثت مجددا، الدعم الجماهيري الاوربي والامريكي المتأثر بدعاية اضطهاد المسيحيين وتهجيرهم، فتمده بقوة جماهيرية اوربية وامريكية، وهكذا تحقق امريكا واوربا بتصعيد الصراعات الدينية والطائفية ما فشلت الراسمالية في تحقيقه بعد غزو العراق وافغانستان وتراجع الدعم الشعبي للنهج الحربي الامريكي واضطرار امريكا لاعلان الانسحاب من العراق وافغانستان. ان مواصلة حروب الغزو والتوسع الاستعماري والتغلب على ظاهرة رفض الجماهير في امريكا واوربا للحرب رهن بالنجاح في تأكيد الانطباع الذي ولدته هجمات 11 سبتمبر – ايلول عام 2001 وهو (ان الاسلام بعنفه وعدوانيته يشكل التهديد الاول للغرب وامريكا وحضارتهما وامنهما)…الخ. هل يذكرنا هذا التكتيك بحدث تاريخي كبير؟ نعم انه يذكرنا بحقيقة ان امراء وملوك اوربا الاقطاعيين في القرون الوسطى لم ينجحوا في تحشيد الجيوش لغزو فلسطين الا بعد ان اقنعوا كتل جماهيرية كبيرة بان هدف الحملات هو خدمة الصليب وانقاذ القدس من (البرابرة المسلمين)، فاخفوا الهدف الحقيقي وهو نهب ثروات الشرق خصوصا في الهند، لذلك كان احتلال (المحطة) الى الهند حاجة ستراتيجية وليس دينية، وهي فلسطين. والتهجير في لبنان هدفه تحويل لبنان الى قاعدة ايرانية متقدمة والتخلص من وجود كتل بشرية ضخمة تعرقل المشروع الايراني. وفي حالة فشل التهجير بكميات كبيرة وبقاء مقاومة لبنانية قوية للمشروع الايراني فان البديل الايراني – الامريكي – الصهيوني هو تقسيم لبنان وتأسيس قاعدة ايرانية قوية وفعالة في القسم الذي يسيطر عليه حزب الله فيما تقام قواعد عسكرية امريكية وربما اوربية في القسم الاخر منه. وهذه الحقيقة التي نراها الان تؤكد ان الغرب يستخدم لبنان كاداة لزواج متعة مع ايران اي اداة مساومة لاغير. ومن الضروري جدا عدم اهمال ظاهرتين خطيرتين تبلورتا في مجرى الصراع في لبنان، الظاهرة الاولى هي اهمال اوربا وامريكا للعناصر والقوى اللبنانية المتصارعة مع حزب الله وعدم دعمها بالمستوى المطلوب لصد هجماته وتفوقه العسكري والمالي والاستخباري حتى على الدولة مع ان الغرب والصهيونية كانا يدعمان هذه القوى (اليمين اللبناني) حينما كانت تقاتل الحركة القومية العربية (في عام 1958) والمقاومة الفلسطينية (الحرب اللبنانية في السبعينيات) وكان ذلك الدعم هو سبب بقاء هذه القوى حتى الان، فهل تلك الظاهرة عادية؟ وما دلالاتها؟، اما الظاهرة الثانية فهي ان امريكا والاتحاد الاوربي يتعمدان تقديم مبررات لحزب الله لتفجير ازمة خانقة في لبنان وهذا واضح تماما، فالتسريب المتعمد لمعلومات عن (القرار الضني) الذي يتهم عناصر من حزب الله عبر الاعلام باغتيال الحريري، وهو عمل لا مبرر له قانونيا، يخدم حزب الله مباشره لانه يوفر له الفرصة للقول بوجود مؤامرة غربية وصهيونية ضده، وهو ما يدفعه للاصرار على ابقاء سلاحه الضخم، من جهة، ويوفر له المسوغ الظاهري لاستخدام هذا السلاح ضد لبنانيين وليس ضد الكيان الصهيوني لابتزاز ابناء لبنان تحت غطاء انه يدافع عن (المقاومة التي تتعرض لتأمر غربي صهيوني) تنفذ عناصر لبنانية الجزء الخطير منه من جهة ثانية. وهذا الموقف الغربي ليس غريبا ابدا اذا تذكرنا بان امريكا والكيان الصهيوني وبعض اوربا كانت قد التقت مباشرة، وتعاونت بصورة رسمية احيانا او شبه رسمية في احيان اخرى مع ايران لانجاح غزو وتقسيم العراق وغزو افغانستان ونشر الفتن الطائفية في الوطن العربي. 9– ويتزامن مع تصعيد ازمة السودان تفاقم ازمة العراق، ان الاتفاق على تشكيل المالكي للحكومة مرة اخرى بدعم امريكي اوربي واضح لموقف ايران يقدم لنا صورة واضحة عما سيحصل في العراق في الشهور القادمة وهو تفجير الغام خطيرة وليس لغم واحد نتيجة تشكيل حكومة هشة وغير قابلة للاستمرار. وبما ان اهم بنود خطة الاحتلال هو بند تقسيم العراق، الذي فشل وسقط بفضل انتصار وحدة الشعب العراقي رغم الدور الخطير الذي لعبه الطائفيون الشيعة والسنة ومحاولاتهم اشعال حرب طائفية ورغم الاندفاع غير العقلاني للزعامات الكردية نحو الانفصال العلني، فان الانتخابات ونتائجها وكما اثبتت احداث الشهور الثمانية المنصرمة ما هي الا الغام مصممة لتتفجر وتعيد العراق الى حالة القتال الطائفية. وابرز مظاهر ذلك هو النتائج المتقاربة في الانتخابات والتي لاتعطي لاحد امكانية اقامة حكومة قوية فيكون الخيار المتبقي هو اقامة حكومة تتنازع فيها قوى متقاربة نسبيا، وهكذا فان كل طرف سيعمل على ازاحة الاخر بالقوة في نهاية المطاف وتلك هي الشرارة التي تنتظرها امريكا وايران لاكمال حرق العراق وتقسيمه. وما يؤكد التوجه الامريكي لتقسيم العراق عودة الزعامات الانفصالية الكردية الى ترديد مطالب الانفصال بعد التوقف عنها لفترة، مثل التصريجات العداونية والاستفزازية لمسعود البارزاني يوم 11/12/2010 في اربيل عند افتتاح مؤتمر حزبه والتي قال فيها ان من حق ما يسمى (كردستان العراق) تقرير المصير بما في ذلك اختيار الانفصال عن العراق. في السودان تتعالى اصوات التقسيم وفي العراق تعود الاطراف الخادمة للاحتلال الى المحاصصات الطائفية والعرقية التي انكرتها اثناء الانتخابات رغم ان الطائفية والعرقية هي المكون الاساسي لتربية وثقافة تلك الجهات، وترتفع الدعوة لتقسيم العراق مجددا باسم حق تقرير المصير، وهذا التزامن والتوافق ليس صدفة ابدا. 10– ويتزامن ما يحصل في السودان ولبنان والعراق ومصر من تصعيد سياسي وطائفي وعرقي مع تصعيد خطير في اليمن ويتمثل في اضافة صراع اخر بحيث اصبح اليمن يواجه ثلاثة صراعات مسلحة او شبه مسلحة : في الشمال في صعدة صراع تحركه ايران وفي الجنوب يتحرك الانفصاليون باصرار واضح وفي الجنوب والوسط تصعد القاعدة عملياتها ضد الدولة، وفي الحالتين الاخيرتين فان بصمات امريكا واطراف خليجية واضحة. ان تعدد الصراعات وضعف اليمن الاقتصادي وتفاقم مشاكل الفقر وغيرها يرشح اليمن لانفجارات خطيرة اكبر واوسع. وفي هذا الاطار فان امريكا تبدو كما بدت في العراق والسودان ولبنان طرفا اساسيا في ازمة اليمن والطرف الاخر هو ايران! فهل حصل ذلك صدفة ام انه تلاق ستراتيجي شامل اقليمي؟ 11– وليس ممكنا تجنب الربط بين ما يحصل في المشرق العربي مع ما يحصل في المغرب العربي، اذ ان ازمة الصحراء تتصاعد مجددا ويتدخل الاتحاد الاوربي بتاييد من امريكا لادانة المغرب حول (قضية العيون) فيما تتعرض الجزائر لتصعيد العمل المسلح داخلها باسم القاعدة، بالاضافة لتصاعد النشاط الايراني في المغرب العربي، وظهور الصراعات الدينية والطائفية لاول مرة في الجزائر نتيجة التبشير المسيحي الذي نجح في تغيير بضعة الاف لديانتهم الاسلامية واعتناق المسيحية وتحول بعض اهل السنة الى المذهب الشيعي الايراني نتيجة النشاط التبشيري الايراني الواسع النطاق! وهكذا راينا ان التبشير لم يعد يقتصر على المسيحية بل برز التبشير الشيعي الايراني ايضا فكانا متزامنين ومتعاضدين ضد ما كان سائدا ومستقرا لقرون في المغرب العربي وهو الاسلام الخالي من الصراعات الطائفية. فهل حصل ذلك صدفة؟ ام انه جزء من سايكس بيكو الثانية والتي تقوم تقسيم الاقطار العربية وانشاء كيانات قزمة ومهمشة على انقاض الكيان القطري؟ أذن امتنا العربية بكافة اقطارها تواجه مرحلة جديدة هي تنفيذ سايكس بيكو الثانية والتي تحمل الينا (بشائر) تقسيم الاقطار العربية على اسس عرقية وطائفية من جهة، واقامة تحالفات اقليمية محيطة بالاقطار العربية تضم الدول غير العربية في اسيا وافريقيا (ايران وتركيا واوغندا واثيوبيا والسنغال والدول التي ستنشأ على انقاض السودان) وتخصص هذه التحالفات بالعمل ضد ما تبقى من الاقطار العربية، في اطار ما تسميه الادبيات الصهيونية نظرية (شد الاطراف) من جهة ثانية. ما المطلوب؟ هذه الحقيقة المعاشة اليوم تشكل خطرا مميتا يهدد وجودنا الوطني كاقطار عربية تضربها موجات التقسيم، ويعرض هويتنا القومية كعرب للانقراض لذلك فان الرد الوحيد المتاح هو مواجهة هذه التطورات التأمرية الخطيرة بما يلي : 1 – من الضروري جدا الان وليس غدا بناء وحدة القوى القومية العربية لتكون حجر الزاوية في النضال ضد محاولات تقسيم الاقطار العربية، وفي التحالف مع التيارات الاسلامية وغيرها. 2 – ان التمسك بشعار وهدف ستراتيجي هو (العروبة اولا) يشكل المخرج الطبيعي من الازمة القاتلة المتمثلة في التشرذم والانقسامات الطائفية والاثنية المتفاقمة بصورة مصطنعة. ان هذا الشعار هو مرجعية النصر ولا توجد مرجعية ناجحة غيرها ولذلك يجب ان يطغى شعار العروبة اولا على ما عداه واسقاط اوهام خطيرة سادت مثل قطري اولا لان قطري اولا ليس سوى تمهيد لتقسم القطر المعني لانه سيواجه بمفرده تحالفا قويا ومقتدرا ومعاديا لنا بلا حدود، وهذا التحالف لا يمكن دحره الا بوحدة كل القوى العربية الحريصة على هويتها القومية وعلى وحدة اقطارها. 3 – وحدة حركات وقوى التحرر العربية بكافة منابعها الايديولوجية والسياسية في اطار جبهة قومية على المستوى القومي، للتصدي لهذه المخططات المشتركة الامريكية الاوربية والصهيونية والايرانية، لانها هي القوة الرئيسية المؤهلة لخوض معركة الوجود العربي الحاسمة. 4- لنتذكر ان بايدن نائب الرئيس الامريكي حاليا هو من طرح مشروع تقسيم العراق في الكونغرس الامريكي قبل ان يصبح نائبا للرئيس، وهو من يقوم بتنفيذه في العراق رغم انه تراجع عنه شكليا بعد ان اصبح نائبا للرئيس الامريكي اوباما، ولذلك فان دوره في السودان ليس صدفة بل هو موقف مشتق من ستراتيجية امريكية وصهيونية عامة تقوم على تقسيم كافة الاقطار العربية. 5 – لنتذكر ان مشروع انفصال الجنوب السوداني كان في حالة دفاع عن النفس لكنه تحول الى الهجوم بعد وصول نظام مثل وجسد تيار الاسلاموي السيد حسن الترابي لانه اراد اسلمة غير المسلمين وانكر حقوقهم الوطنية واهمل مناطقهم التي بقيت محرومة من التنمية رغم ان النفط بغالبيته يقع في الجنوب، وهذه الحالة هي التي نقلت الانفصال من مطلب معزول يتمتع بدعم غربي صهيوني فقط فعد ظاهرة تابعة للاستعمار الغربي والصهيوني، الى امر واقع امتلك حجج دينية واقتصادية قوية تتمثل في رفض الاسلمة بالقوة والسعي للحصول على ثروات النفط لاهل الجنوب وهو ما اوجد حالة ارتباك في صفوف بعض العرب ودفع اطراف عربية وسودانية معينة لدعم انفصال الجنوب او التحالف مع الانفصاليين فيه. من هنا فان الدرس الاكبر والاخطر لتجربة غزو العراق ولتجربة تطور موضوع الانفصال في جنوب السودان هو ان تدخل رجال الدين في السياسة واستخدامهم للدين كغطاء لمطامعهم السياسية هو الذي استغله الاحتلال الامريكي في العراق لاقامة حكومة عميلة من اطراف طائفية شيعية وسنية كما هي مدعومة م © جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia. |