ها إن موقع ويكيليكس يضيف فضيحة جديدة إلى سلسلة الفضائح الأمريكية التي ما إن تخمد نار إحداها حتى تشتعل نار أخرى. وفي كل مرة، ومن أجل تقديم التفسيرات أو التبريرات، تضطر المؤسسات الرسمية الأمريكية إلى ممارسة الكذب والتلفيق وخلط الأوراق. ولذا فعندما تقف وزيرة الخارجية الأمريكية، وأوداجها منتفخة من شدة الغضب، لتقول إن الفضيحة الجديدة ليست موجهة ضد أمريكا بقدر ما هي موجهة ضد المجتمع الدولي فإنها تمارس الادعاء بأن أمريكا هي المجتمع الدولي وان المجتمع الدولي هو أمريكا، وبالتالي فان من يقف ضد أمريكا يضر بالعالم كله. ألا يذكرنا هذا القول بعنجهية ملك فرنسا لويس الرابع عشر في القرن الثامن عشر عندما صرخ: "أنا الدولة والدولة أنا"؟ وهكذا تصبح قضية نشر وثائق سرية أمريكية قضية دولية تحتاج إلى وقفة واحدة عالمية ضد الموقع الالكتروني وصاحبه. إنها ممارسة اللعبة إياها عندما نجحت الولايات المتحدة الأمريكية في قلب حادثة إرهابية إجرامية ضدها عام 2001 لتصبح قضية إرهاب دولي موجه ضد الإنسانية برمتها.
ولكن دعنا من الشق الأمريكي من الفضيحة الجديدة ولنهتم بالشق الثاني المتعلق بما سربه موقع ويكيليكس بشأن بعض الجهات السياسية العربية متهما إياها بأنها تتحدث بلغتين: لغة علنية موجهة للشعوب ولغة سرية موجهة لهذا المسؤول السياسي أو العسكري الأجنبي أو ذاك. وإلى ان يصدر تعليق من هذه الجهات، بالنفي أو التصحيح أو التأكيد، على ما جاء في الوثائق الأمريكية فان المرء لا يستطيع إلا أن يتساءل إن كان بعض القادة العرب يتعاملون باللغة السياسية التي وصفها الكاتب الانجليزي الشهير جورج أورويل بأنها اللغة التي تجعل الكذب يبدو وكأنه الحقيقة وتجعل القتل وكأنه من الأفعال المحترمة وتجعل الهواء الشفاف يبدو وكأنه مادة صلبة.
والواقع ان موضوع التباين، بل التناقض المفجع، بين خطابات بعض القادة العرب في العلن وبين همساتهم في الحجرات المغلقة قد أصبح حديث العالم كله. فالسياسيون والعسكريون الأمريكيون والأوروبيون قد أعلنوا ذلك مرارا، وعبروا عن دهشتهم أمام هذه الظاهرة العربية المستفحلة. وعندما وقف رئيس وزراء الكيان الصهيوني منذ بضعة أيام ليؤكد فرحا بأن فضائح ويكيليكس الجديدة تخدم الكيان الصهيوني، إذ انها تبين أن قادة المنطقة يتفقون مع مواقف حكومته في السر ويعارضونها في العلن، فانه يشخص حالة مرضية عربية وصلت إلى مراحل الفاجعة والأخطار القومية الكبرى.
وبالطبع نحن لا نبرئ الآخرين من ممارسة الظاهرة نفسها، فعشرات الكتب والبرامج التلفزيونية أظهرت مؤخرا كيف ان قادة في دول ديموقراطية وبوجود إعلام مراقب، من أمثال بلير وبوش، قد مارسوا الكذب والتلفيق على شعوبهم وعلى العالم من أجل إقناع الجميع بمهاجمة العراق واحتلاله. لكننا معنيون بالآثار السيئة لظاهرة التناقض بين الظاهر والباطن في الحياة السياسية العربية.
إن وصولها إلى مستوى العادة السياسية عندنا قد قاد في الماضي إلى كوارث وطنية وقومية. لقد دخلت دول عربية في حروب وصراعات ومؤامرات ضد بعضها بعضا بينما قادة تلك الدول يتبادلون الابتسامات وخطابات الأخولاة والجيرة. كما وقعت الاتفاقيات والمعاهدات السرية التي كبلت هذه الدولة العربية أو تلك بينما الخطاب العلني للقادة يوحي بالعداوة ضد بلدان من وقعوا معهم.
أفجع ما في الأمر أنه عندما تنفجر الفضائح في وجه من يمارسون تناقض القول في العلن والسر فإنك لا تحصل على أي تعليق أو تفسير من أولئك المعنيين. وهم يمارسون ما عبر عنه يوما ما السياسي الأمريكي الشهير أدلاي ستيفنسون من ان السياسي هو رجل الدولة الذي يجيب عن كل سؤال بفتح فمه ولكنه لا ينطق بكلمة واحدة. ولذا فهناك شكوك كبيرة في ان يحصل المواطنون العرب على أي تفسير لما طرحته وثائق ويكيليكس الجديدة. فبغياب إعلام حر مسؤول ملتزم بمراقبة الفضاء السياسي بشرف وأمانة، وبغياب مجالس برلمانية منتخبة انتخاباً حرا وممثلة لمصالح الأوطان والعباد، فان اللغط الذي يجري حول تلك الوثائق سيخفت قريبا وسينساه الناس مثلما نسوا رذائل أفظع وتصرفات حمقاء أكبر.
قديما أوصى أحدهم بالكتابة على قبره: "هنا يرقد فلان، ومعه ترقد أكاذيب وأكاذيب وأكاذيب". وفي يوم من الأيام، حسب سنن الحياة والتاريخ، سيرقد الكثيرون من قادة عالمنا في قبو الموت والنسيان، وللأسف لن تكتب على قبورهم سوى تلك التوصية. إنها فاجعة السياسة في عالم الكذب الذي نعيش. ان ويكيليكس لا ينشر فضائح فقط، إنه يكتب على شواهد قبور المستقبل.
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.